وجهات نظر

سياسات ووقائع في "مسار التجويع"

أيًا تكن الإجراءات التي سيتم اتخاذها في قطاع غزّة وفي سوريا، لمحاصرة حالة تجويع الفلسطينيين انطلاقًا من الحرب على غزّة، وتجويع السوريين نتيجة ما صارت إليه تطورات قضيتهم، فإنّ نتيجة تلك الإجراءات ستكون محدودة في المدى القصير، ولن تمنع حالة تجويع الشعبين، وإعلانها حالة تسير إليها شعوب عربية أخرى، دخلت المسار وتسير فيه مثل اليمن والسودان نتيجة للحرب الدموية الجارية هناك، ووسط القابلية العالية في تمدد حالة التجويع نحو بلدان أخرى بينها لبنان وتونس بفعل استحكام أزمات، لا يرغب أطرافها المحليون في حلّها، ولا تجد اهتمامًا ولا إرادةً إقليمية ودولية في دفعها إلى حل.

سياسات ووقائع في

ضعف تأثير الإجراءات في معالجة التجويع في المثالين الفلسطيني والسوري، يعود إلى عوامل متعددة لعل الأبرز فيها طبيعة تلك الإجراءات، إذ هي محدودة من حيث حجمها وضعف إمكانية وصولها لكل المحتاجين، وشكلية باعتبارها مؤشر تضامن أكثر من كونها تلبية لاحتياجات الواقع، ومؤقتة وهي صفة تنطبق أكثر على حالة غزّة، لأنها مرهونة بتطورات الحرب الاسرائيلية الدموية، التي لا يتبين لها زمن تتوقف فيه على سبيل الهدنة حتى، إضافة إلى أنّ التدخلات الإجرائية، تتم من جانب أطراف، تتقدمهم الولايات المتحدة، التي تسعى إلى تبرئة نفسها من المسؤولية في الحرب على غزّة، مقرونة بإظهار عدم التجاوب مع مواقف المجتمع الدولي ومنظماته في عون الفلسطينيين في وقف الحرب ووصول المساعدات إليهم ولا سيما جهود وكالة غوث اللاجئين، والتي توشك على الانهيار في مواجهة تجويع الفلسطينيين، وقد انهار قبلها في نهاية العام 2023 مسار المساعدات الدولية لإسعاف أكثر من خمسة ملايين سوري بحاجة ماسة لمساعدات غذائية.

حيثيات هدف تجويع الفلسطينيين والسوريين يمكن أن تكون واردة في مسار التجويع في أغلب البلدان العربية

ويعيدنا الحديث عن جدوى إجراءات مواجهة حالة التجويع الجارية، للوقوف عند بعض أسبابها المباشرة وغير المباشرة. ففي الأسباب المباشرة لحالة التجويع، أنها تتم بإرادة وواسطة أطراف محلية، حيث هي في الحالة الفلسطينية وفي قطاع غزّة ناتجة عن سياسة إسرائيل في الانتقام من الفلسطينيين وإذلالهم وتحويل حياتهم إلى جحيم، وتحميلهم مسؤولية عملية "طوفان الأقصى"، التي خرقت خط سياسات الحصار الذي رسمته وكرّسته إسرائيل لعقد ونصف العقد من السنوات في العلاقة مع القطاع والمقيمين فيه، وكرّست إسرائيل عبر عشرات الإجراءات، التي قامت بها في غزّة في أشهر الحرب طبيعة هدفها من سياسة التجويع باعتبارها السياسة الموازية لاستخدام القوة المفرطة ضد كل سكان القطاع، وليس ضد "حماس" ومناصريها الذين تحمّلهم إسرائيل المسؤولية عن عملية "طوفان الأقصى" وما نتج عنها.

وتقترب حالة تجويع السوريين في سببها الرئيس من شقيقتها الفلسطينية، لكن بطيف من الفاعلين يتقدّمهم نظام الأسد، ومعه سلطات الأمر الواقع في شمال غرب سوريا وفيها الحكومة السورية المؤقتة التابعة للائتلاف السوري المعارض، وإلى جانبها حكومة الإنقاذ التابعة لهيئة "تحرير الشام" المتطرّفة، وسلطة الإدارة الذاتية في شمال شرق سوريا، التي يديرها تحالف يقوده حزب "الاتحاد الديمقراطي الكردي"، وكلها تتبنى وتطبّق سياسات، وتتخذ إجراءات نتيجتها تجويع غالبية السكان، عبر الفساد والخراب الاقتصادي وتعميم مستويات الفقر، التي بلغت حسب التقديرات الدولية أكثر من تسعين بالمائة من السكان، والهدف الإجمالي لتلك السياسات والإجراءات، يكمن في تطويع السكان، ودفع بعضهم للخارج، وإجبار الباقين على الخضوع والدخول إلى حظيرة سلطات الأمر الواقع، التي تراهن كل واحدة منها على دور لها في مستقبل سوريا في إطار حل يعيدها إلى كيان واحد، أو أن تكون في مقام صاحبة سلطة في أحد كيانات، تنتج عن تقسيم سوريا.

ورغم أنّ بعض حيثيات هدف تجويع الفلسطينيين والسوريين، يمكن أن تكون واردة، بل هي واردة في مسار التجويع في أغلب البلدان العربية، حيث تسعى السلطات لإخضاع السكان بصورة ما، لكن مضافة إلى أسباب أخرى، تبدو أكثر تأثيرًا وأهمية في وصول شعوب تلك البلدان إلى مرحلة التجويع.

ففي كل من اليمن والسودان، تتواصل الحرب الدموية الجارية هناك، مما يجعلها السبب الرئيس لتجويع اليمنيين والسودانيين الذين يملكون كل الإمكانيات التي تجعلهم خارج الحرب، قادرين على توفير كل احتياجاتهم المعاشية والغذائية خاصة، لولا أنّ أطرافًا داخلية، دفعت البلاد في مسار الحرب وسط دعم قوى إقليمية ودولية، رأت في الحرب ما يحقق بعضًا من طموحاتها وأهدافها في البلدين وحولهما.

وثمّة اختلاف في الأسباب المؤدية إلى التجويع في بقية البلدان الذاهبة في هذا المسار، وأحد الامثلة التي لا بد من التوقف عندها، هي حال لبنان وقريبًا منها تونس ومصر، وفي البلدان الثلاثة، يبدو المشترك في أخذها في مسار التجويع مجسدًا في سلوك السلطات الحاكمة وفق سياسات إدارة الأزمات. ففي كل منها أزمات سياسية واقتصادية واجتماعية واضحة، تعجز القوى المحلية بما فيها السلطات الحاكمة عن معالجتها، والأخيرة تخشى أنّ علاجها سوف يؤثر على استمرارها في الحكم، فتذهب إلى سياسة إدارة الأزمات بدل مواجهتها وسط أمل، أنّ سياساتها وتفاعلاتها مع البيئة الإقليمية والدولية، يمكن أن توفر ظروفًا أفضل رغم معرفتها، أنّ الظروف ليست بوارد تقديم الأفضل لدول مرتبكة، وتسير من سيّء إلى الأسوأ، ولعل واقع الحال الأخير، سبب في ضرورة الإشارة إلى أنّ غنى بعض البلدان، لا يمنع من ذهابها في مسار التجويع، وإن كان يمنع غرقها فيه، والإشارة في هذا المثال، تشمل كل من العراق وليبيا، التي تقود سياسات وممارسات السلطات فيهما وعلاقاتها مع القوى الإقليمية والدولية إلى ذهاب البلدين نحو التجويع، غير أنّ وفرة العائدات النفطية، واستخدامها في تجاوز مستوى الجوع لدى قسم كبير من السكان، يمنع حالة التجويع لكنه لا يتجاوزها.

لمعالجة الصراعات العربية وتوجيه أموال العسكرة في مسارات التنمية وتلبية احتياجات السكان من غذاء وسكن وصحة وتعليم

يعكس مسار التجويع صورة سوداء للواقع العربي، تتجاوز في آثارها وتداعياتها أغلب المساوئ والترديات القائمة، فلا شيء أصعب من أن يجوع البشر، بل ويموت بعضهم وخاصة الأطفال والنساء وكبار السن، مما يجعلها تستحق موقع الصدارة في الاهتمام العربي العام للحكومات والفعاليات السياسية والاجتماعية ووسائل الإعلام للغوص فيها انطلاقًا من تحليل الواقع وتفصيل أسباب مسار التجويع وعلاقاته، وسبل الخروج منه، وتجنّب الوصول إليه في حالة من لم يصله بعد، وإذا كان ذلك يمثل ملامح أساسية في المسار العربي لمواجهة التجويع، فإنّ الأمر يتطلب اقترانه مع إجراءات عاجلة، تمثل حلقة أولى في مواجهة التجويع ومنها البدء في عملية تبريد الخلافات العربية، ودفع الصعب مؤجلًا للمعالجة في المستقبل، وبدء معالجة ما أمكن من صراعات جارية في البلدان العربية وما بينها، وتوجيه أموال العسكرة والحرب في مسارات التنمية، وتلبية الاحتياجات الأساسية للسكان من غذاء وسكن وصحة وتعليم، وإشاعة ثقافة التشارك والمساواة والعدالة في سياسات دول المنطقة وفي علاقات شعوبها البينية والدولية.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن