يتصاعد الحديث في الآونة الأخيرة، وتحديداً منذ إعلان الرئيس الأمريكي دونالد ترامب عن رفع العقوبات على سوريا خلال زيارته للسعودية، عن تزايد احتمالات التطبيع بين دمشق وتل أبيب. يترافق ذلك مع معلومات حول وساطات إماراتية أفضت تواصلاً بين إسرائيليين وسوريّين، ولو أنه تواصل لم يبلغ حدّ التفاوض المباشر بعد.
لكن ما التطبيع المنشود وما خصائصه؟ وهل هو مصلحة سورية فعلاً على ما يردّد بعض المقرّبين من السلطة السورية ومعهم بعض "الليبراليّين" (أو أقلّه من يعرّفون أنفسهم على هذا النحو)؟ لعلّ أوّل ما يفترضه التطبيع اليوم في العرف الإسرائيلي وفي ظلّ موازين القوى القائمة على الأرض، هو تخلّي دمشق عن المطالبة باستعادة الجولان، الذي سبق لترامب في ولايته الأولى أن "اعترف بشرعيّة ضمّ إسرائيل له وبسيادتها عليه"، والاستعاضة عنه بالبحث في ترتيبات أمنية في المنطقة المنزوعة السلاح التي احتلّتها إسرائيل بعد الثامن من كانون الأول/ديسمبر 2024.
وثاني الافتراضات التطبيعية يتعلّق بالتنسيق في مواجهة "الأعداء المشتركين"، أي إيران وحلفائها، وفي طليعتهم "حزب الله" والميليشيات الشيعية العراقية التي قاتلت في سوريا إلى جانب قوات النظام البائد. وهذا سيعني توتّراً شبه دائم في العلاقة مع لبنان والعراق، حيث لحلفاء إيران حضور سياسي وقاعدة شعبية لن تتلاشى. وقد يعني أيضاً تفويتاً لفرص التعاون الاقتصادي والسياسي الإقليمية التي لا يعوّضها تطبيع مع إسرائيل مهما بلغ عمقه.
أما ثالث الافتراضات، فيتعلّق بالداخل السوري الذي لن تتمنّع تل أبيب عن التدخل الدوري في شؤونه، إن بحجة "الأقلّيات" أو بذريعة "القربى بين دروز إسرائيل ودروز سوريا"، أو حتى في ما خصّ التعامل مع "المسألة الكردية". ولن يكون مستغرباً قول إسرائيل كذلك بضرورة التعاون في "الحرب على الإرهاب"، وما يعنيه ذلك من مطالب قد تتخطّى العمل المزعوم ضد "خلايا داعش" لتطال الأصوات المعارضة لتل أبيب، ومنها أصوات بعض فلسطينيي سوريا، أو في الحدّ الأدنى لتمارس الضغوط الدائمة عليهم.
ويمكن افتراض اشتراطات إسرائيلية إضافية في مسار تطبيعي، خاصة إن كان المطلوب انضمام سوريا لاتفاقات أبراهام التي يكرّر ترامب تمسّكه بها، في طليعتها مثلاً علاقة دمشق بتركيا وحضور الأخيرة الأمني والتجاري الذي لا ترغب إسرائيل بتعمّقه أو تجذّره في سوريا ضمن مقاربتها “للشرق الأوسط الجديد” الذي تريد تسيّده وحيدة، والذي تعدّ تركيا (بعد أن أضعفت إيران) خصمها الأوّل فيه.
قد يقول مؤيّدو التطبيع إنه في أي حال ليس نهاية المطاف، وإن سوريا ليست ملزمة بقبول جميع ما يُطلب إسرائيلياً في سياقه، وإن المهمّ هو طيّ صفحة ترتبط بما بقي من خطاب النظام الأسدي وثقافته وتحالفاته التي خرّبت سوريا على مدى نصف قرن من جهة، والاستفادة ممّا سيتيحه التطبيع ديبلوماسياً واقتصادياً وفي العلاقة مع واشنطن ودول الغرب من جهة ثانية. وقد يقولون أيضاً إنه سيحرّر السياسة داخل سوريا من ابتزاز دائم ومن عبء قضية لا جدوى منها، وإن الجولان مُحتلّ في أي حال، وهو عاش تحت الاحتلال الإسرائيلي أكثر بكثيرٍ ممّا عاش في كنف الدولة السورية.
على أن التدقيق بالمقولات هذه، كلّها، يظهر مدى غُربتها عن السياسة وعن ديناميّات العلاقات الدولية. ذلك أنها ترسم سيناريو مشتهى لثمار تطبيع غير مضمونة وغير معروفة الملامح. وهي تعدّ أن الخلاص من "الممانعة" وسفاهة خطابها وإجرام ممارساتها وتحسّن العلاقة مع "الغرب" يتطلّب بالضرورة التطبيع مع الإسرائيليين، وكأن التطبيع المذكور هو مفتاح سحريّ لحلّ أزمات الثقافة السياسية وعلاقة السوريّين ببعضهم وبالعالم الخارجي.
والأنكى أن بعض "الليبراليين" الغاضبين على السلطة الجديدة في دمشق وما يعدّونه استبدادها وفقر ثقافتها وانعدام كفاءة مسؤوليها ويقولون حتى باجترارها الكثير من معالم الأسدية، يبدون متحمّسين لتطبيعها مع تل أبيب، وينسون أنها ستحصل بموجبه إن تمّ على إجازة (إسرائيلية وأمريكية) لارتكاب ما تشاء في الداخل السوري بحجة ضبطه وتوفير الاستقرار فيه، وأنها ستتمكّن بالتالي من إسكاتهم ومنعهم حتى من الانتقاد.
وليس صحيحاً أن حكماً إسلامياً لا يمكنه الحصول على هكذا إجازة للتعامل مع “الداخل” إن اضطرّ للتحالف مع تل أبيب وواشنطن في "الخارج". فهذه نظرية بائسة أصلاً، إذ أن لا طرفاً عربياً واحداً تحسّنت ظروفه الداخلية بعد سلامه مع إسرائيل (أو تراجع القمع فيه أو تقدّمت الحرّيات)، من مصر إلى الأردن، ومن البحرين إلى المغرب، مروراً بالسودان والإمارات. والنظريّة أشدّ بؤساً اليوم في ظل صعود الأصولية الدينية ومشاركتها الرئيسية في الحُكم في تل أبيب وفي ظلّ نفوذ شبيهاتها وتأثيرهم على الحكم في واشنطن. فالأصوليات الدينية في إسرائيل وأمريكا، بمعزل عن عنصريّتها وكراهيتها للإسلام، إلا أنها تتلاقى والأصولية الإسلامية في معظم المواقف والقضايا المجتمعية، ولا تعنيها في شيء مسائل الحريات العامة والخاصة، ولا مسائل المساواة، ولا كلّ ما يدّعي الليبراليون التوق إليه إن هم تخلّصوا من “ثقل القضية الفلسطينية”.
لم نذكر فلسطين ذاتها وسط كل ما أوردنا، ولا البعد الأخلاقي لتطبيع مع دولة تمارس الإبادة الجماعية في غزة، وتحاول فرض تطهير عرقي لضمّ الضفة، كي لا يردّ مُتذاكٍ بالقول بتهافت "الأخلاق" ومؤدّياتها السياسية في عالم اليوم. لكن ما يجدر ذكره هو أن بعض الأصوات المؤيّدة للتطبيع، يمكن سماعها – إذ تهجو فظائع الأسدية وتذكّر بمذابح الممانعة – تطالب بعدالة انتقالية، أو بتحقيق في الجرائم هنا وهناك، أو باستقلالية المسارات القضائية. أي أنها تُعلي قضايا حقوقية و"أخلاقية" في ما خصّ إدارة شؤون حياتها الخاصة والعامة. على أنها لا تمانع بالتطبيع مع كيانٍ سيرته اليومية هي سيرة قتل وتعذيب وتقطيع أوصال وتجويع وقصف مستشفيات وبتر أعضاء أطفال، وهي فوق ذلك أكثر دولة في التاريخ الحديث احتقاراً للعدالة (الانتقالية وغير الانتقالية) ولاستقلاليّتها. وما الأسدية وأضرابها في هذا الباب إلا تقليد موضعي رقيع لها ولحصانتها الدولية ضد المحاسبة والقوانين.
في الختام، وفي الردّ على الاستسلام لأوهام التطبيع سورياً بوصفه متصلاً بالاستثمارات الموعودة، يفيد القول إن دمشق قادرة على طمأنة الأمريكيين والغربيين في أكثر من مجال اقتصادي، وعلى توفير شروط استثمارية في أطر تعاون إقليمي لا تحتاج فيه لإسرائيل، ويمكنها الركون إلى التعامل الوثيق مع تركيا ولاحقاً مع العراق، وتطوير الطرقات السريعة التي تربط بيروت والخط الساحلي السوري باسطنبول وبغداد والبصرة وبعمّان وجدّة والرياض. ودمشق قادرة أيضاً على التفاوض الآن من أجل عودة الإسرائيليين إلى خط الهدنة أو فك الاشتباك العام 1974، والقول بالتفاوض لاحقاً على سلام شامل، يظلّ شرطه قرارات الأمم المتحدة أو أقلّه ما يستند إليها.
أما التوهّم بحلول للأزمات المتراكمة بمجرّد التطبيع مع دولة الإبادة الجماعية، ففيه قصور ورداءة فهم سياسي، أو بحث عن "مشروعية" خارجية للاستقواء بها على داخل يمكن أن تتناقص من دون عملٍ وتحسين ظروفٍ "المشروعية" الشعبية فيه…
(القدس العربي)