وجهات نظر

الشباب العربي وأشكال المواطَنة الجديدة

مهدت زيادة تعاطي الشباب العربي مع تطبيقات تكنولوجيا المعلومات والاتصالات لبروز كيانات رقمية جديدة داخل شبكة الإنترنت، تختلف كلية عن المجتمعات الموقعية أو الطبيعية التي اعتادوا السكن والتفاعل فيها، أطلق على هذا النوع من الكيانات: العوالم الرقمية، أو الافتراضية أو الإلكترونية أو الشبكية أو الإنترنتية.. إلخ. 

الشباب العربي وأشكال المواطَنة الجديدة

ورغم التشابه الكبير في أشكال التنظيم الاجتماعي والتفاعل التكنولوجي الذي تتيحه هذه العوالم بمسمياتها المتكثرة، إلا أنّ كلًا منها يحتفظ ببعض الخصوصيات الحصرية، يتعلق الأمر بخصوصيات رقمية تكنولوجية محضة (إذا كان الأمر يتعلق بنقل بتات رقمي أم مؤشرات طاقية كهربائية فقط)، وكذلك أشكال التفاعل وأوجه العلاقة بالعالم الطبيعي/الموقعي، ويتعلق الأمر هنا إذا ما كانت هذه العوالم التكنولوجية المبنية بدعامة من شبكات الإنترنت على صلة بالواقع الطبيعي من حيث يعتبر أصلًا ومرجعًا لها، أم العكس، بمعنى أنها عوالم افتراضية تسكنها كائنات افتراضية/أفتار لا علاقة لها بما يعيشه الشباب في واقعهم الطبيعي وحياتهم اليومية.

هذه العوالم الرقمية ومجتمعاتها الافتراضية لاقت قبولًا وانتشارًا واسعًا لدى الشباب المشاركين على الإنترنت حتى سماها البعض "الآلهة بالمعنى الإغريقي القديم"، على حد تعبير خبير السمعي البصري الفرنسي بيير بابان (Piere Babin)، من حيث خدماتها اللامحدودة لإشباع الحاجات والتماهي مع الرغبات، وإتاحة أشكال من الحضور الدائم في كل مكان وزمان، واعتبرت بذلك أمكنة ثالثة جديدة لكن من طبيعة مغايرة، فهي رقمية أو افتراضية أو شبكية..

هجرة جماعية لجيل الشباب العربي إلى وطن الشبكات الرقمية والنشاط السياسي التفاعلي

هذا الحضور الشبكي السائل يجعلنا نكتشف أنّ مفهوم الفرد في إطار الجيل السياسي قد "تغيّر من مجرد كائن يخضع لسلطة وينتفع بحقوق في ظلها بالمعنى الليبرالي للكلمة، ليتعرّف على نفسه من الآن فصاعدًا كذات واعية تشارك في السيرورة التي يفكر من خلالها المجتمع ويقرر لنفسه" (شراف شناف)، وهي سيرورة لا تجد لها حضورًا فعليًا في الواقع والممارسة، بقدر ما تؤشر عن هجرة جماعية لجيل الشباب في العالم العربي إلى فسحة العوالم الرقمية، بما تعنيه هذه الهجرة من انتقال من قيم مادية وواقعية هشة، إلى بحث مستمر عن قيم تعاقدية متفاوض بشأنها. إنها هجرة لا إلى مكان محدد أو قوم أو بلاد، بل هجرة إلى وطن الشبكات الرقمية والنشاط السياسي التفاعلي، والذي تجسدت فيه واضحة قيم المواطنة الرقمية والديموقراطية الجذرية والحرية، وتحققت فيه إمكانية بلوغ الإرادة العامة حول المواقف والأحداث.

وليست هذه الهجرة في حل تام من أي ارتباط بالرقعة الجغرافية والتاريخية العربية وفك الارتباط بالوطن، فالعوالم الرقمية تعج بالمنابر والمواقع الجهوية والمحلية، كما تعرض كثير منها وحتى صفحات مواقع التواصل الاجتماعي الأعلام الوطنية ورموز الانتماء الهوياتية، لكن ذات المواقع تحوّلت إلى نوع من "المواطنة الرقمية" التي لا ترتبط بالوطن كرقعة جغرافية وأرض حميمية، بل بفكرة وقيمة رمزية عن الوطن، حيث "المواطنة الافتراضية تقوم في الأساس على تسخير فضاء الشبكات بغية تأسيس علاقات 'مواطنة' جديدة تسبح في عالم افتراضي، يتيح للشباب العربي فرصًا أرحب للمشاركة والتعبير عن هويتهم وأفكارهم بدون حدود أو قيود، وتكوين علاقات فكرية في إطار مجموعات افتراضية يمكن أن تختزل وتخترق حدود الزمان والمكان أو ما عبّر عنه البعض بنهاية الجغرافيا ونهاية الدولة وبزوغ مفهوم الدولة الافتراضية" (رفعت مصطفى).

حالات فردية بدأت في المواقع الجغرافية ثم انتقلت إلى العوالم الرقمية حاصدةً مساندات وتفاعلات وتغريدات وتدوينات

من نتائج ذلك أنّ الشباب العربي وفي انتقاله نحو عوالم رقمية مفتوحة وبدون حدود، يسكنون فضاءاتها الافتراضية، ويعتلون منصاتها، ويبنون من خلالها ذواتهم/أفتار الخيالية أو الرقمية، بمنظومة قيم وأخلاق واتجاهات جديدة، قوت من الروابط الافتراضية والرقمية والخيالية، ولكنها بالمقابل أضعفت الروابط الأسرية والقرابية والموقعية بين جيل الشباب الحالي والأجيال التي سبقتهم، حيث تعززت توجهات الفرد نحو الانعزال عن المحيط الجغرافي القريب وعن الانتماء للجماعات الأولية (الأسرة، الجوار..) مقابل المزيد من الانفتاح على الفضاء الافتراضي والانتماء لجماعات وهويات افتراضية رخوة، والتأثر "بقيم هجينة"، مع تناقص أثر المعايير والقيم والمعتقدات والمبادئ المحلية، المرتبطة بالدولة القومية الحديثة وتنظيماتها المؤسسية، في مقابل رفع منسوب القيم الجماعية والفردية معًا، الأمر الذي مكن من الحديث عن "فردية متشابكة" و"ذات جماهيرية"، ومركبات أخرى، ظهر ذلك في كثير من الأحداث التي رافقت الهجرة المتزايدة للشباب العربي نحو العوالم الرقمية، من قبيل أشكال التضامن والتساند والتكتل الرقمي التي رافقت ثورات الربيع العربي وما بعدها، وأثناء مواجهة جائحة كورونا خلال العام 2019، وأشكال المساندة وتشجيع المنتخبات العربية خلال مباريات كأس العالم الأخيرة بقطر سواء في الملاعب والمدرجات أو المقاهي والساحات والبيوت والمحلات، وأخيرًا أشكال التعاطف والتضامن مع الفلسطينين في غزّة فيما بعد طوفان الأقصى.

كل هذه النماذج وأخرى لا يتسع المجال لسردها بدأت من الرقمي وانتهت إلى الموقعي، أو العكس، أي بدأت كحالات فردية في المواقع الجغرافية التي يحتلها الشباب في حياتهم اليومية، ثم انتقلت إلى العوالم الرقمية لتسيل وتتدفق حاصدةً وراءها مساندات وتفاعلات وتغريدات وتدوينات، زادت من وهجها وقوة تأثيرها، كرة ثلج تتعاظم أبدًا محدثةً أكبر ما يمكنها من الأثر الانفعالي والعاطفي والوجداني والنفسي في كل أرجاء العالم العربي.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن