إنّ النّاظر بعين المستفهم، يتلحَّظ ظاهرة خفوت التَّضامنات العربية في الواقع، بالمقارنة مع حجمها وثرائها فيما مضى، فمثلًا الثورة الجزائرية تضامنت معها بالعاطفة والفعل والدّعم جُلُّ الشُعوب والأنظمة العربية والإسلامية؛ رغم تطاول عمر الاستعمار الفرنسي وبقائه 130 سنة.
بينما ما نلاحظه اليوم أمام "كارثة غزّة"، هو خفوت هذه التَّضامنات وانكفاء الشعوب العربية والإسلامية على ذاتها، والاكتفاء بالتعبيرات والانفعالات من غير إسهام فعلي أو عملي، فما هي مظاهر ذلك؟ وما هي أسبابها؟
أولًا - مظاهر تمزّق شبكة العلاقات التضامنية في الواقع العربي:
1. الموت هنا و اللَّعب هناك: تلازم أقوى الإرهاب الصهيوني قتلًا وتجويعًا للفلسطينين، مع تنظيم تظاهرات رياضية، الشعوب العربية والإسلامية جزء كبير منها؛ هي: كأس أمم آسيا لكرة القدم، وكأس أمم أفريقيا لكرة القدم، وقد انفعل الوعي الشَّعبي العربي بكل حماسة معها، ناسيًا أنّ ثمة شعب عربي يُباد، ويُراد له أن يُهَجَّر بكل الوسائل، وقد استغلَّ الكيان الصُّهيوني هذا التمزُّق، بأن ضاعف من إرهابه وقتله وتشريده، فهذا من أقوى المظاهر على تمزق شبكة العلاقات التَّضامنية العربية؛ إنَّه الجمع بين اللعب والموت؛ بين الإرهاب والتَّرفيه، وكأن فلسطين هي قطعة تقع خارج الوجود العربي، رغم قداستها ورمزيّتها في الأرض وفي المقاومة.
خطابات الأنظمة العربية تتفق على الإيمان "بالوهم النافع"
2. وهم الثقة في المجالس الدولية: بدلًا من القيام بجهود تضامنية فعلية مع الفلسطينين، راحت الأنظمة تُلقي المسؤولية على المجالس الدولية، وهي تعلم أنها لا تنتصر لفلسطين ومتحيّزة إلى الكيان الصهيوني، لكنَّها تُواصل هذا الأسلوب، والغرض الحقيقي ليس هو الرَّغبة في أن يقوم مجلس الأمن بالانتصار لقيم العدالة ولحق فلسطين في الحياة، وإنما الرغبة في الاستمرار لدولته أو لسلطانه، وليست تعنيه مسألة فلسطين أصلًا، ولذا فتحليل مضمون خطابات الأنظمة العربية يبيّن أنها تتفق جميعًا على الإيمان "بالوهم النافع"، في أن تقوم المجالس الدولية بتجريم إسرائيل أو وصمها بفعل الإبادة؛ إنّه وهم لأنّه غير حقيقي، ونافع لأنّه يحافظ على الذّات.
وهنا لا يجب إنكار أهمية أدوار قامت بها دول عربية:
• الدّور الديبلوماسي للجزائر؛ الذي فضح التحيّز الهمجي لأمريكا ضد فلسطين في مجلس الأمن، وأسهم في الإبانة عن كونها داعمة للكيان في هذه المجالس الأمنية رغم وقوف جل الأعضاء مع قرار وقف إطلاق النّار[1].
• الدَّور القضائي لجنوب أفريقيا، الذي فضح الكيان الصهيوني بالأدلة القانونية، وتضامنت جل الشعوب العربية مع هذه الشجاعة القانونية الدولية.
• المقاومة في اليمن، التي تصدت للسفن العابرة من هناك، انطلاقًا من الإيمان بالتضامن والعدالة وحق الإنسان المقدّس في الحياة؛ والحق في وصول المساعدات للفلسطينيين؛ فأمريكا التي تمنع وصول المساعدات إلى غزّة هي نفسها التي شكَّلت وفي ظرف زمني وجيز؛ تحالفًا دوليًا من أجل حماية ووصول المساعدات التي تمر عبر البحر الأحمر اليمني إلى الكيان الصهيوني.
• جهود الوساطة التي تقوم بها مصر وقطر، فهذه أيضًا تأتي أهميتها من كونها تعبيرًا عن التضامن مع فلسطين؛ والتخفيف من المعاناة وإيجاد مناطق توافق لأجل وقف إطلاق النار وفتح المعابر إنقاذًا لحياة الناس.
ثانيًا - أسباب تمزّق شبكة العلاقات التَّضامنية في الواقع العربي:
1. عوائد كل جيل تابعة لعوائد سلطانه: يُعد هذا الإقرار التَّحليلي الخلدوني، تعبيرًا عن واقع العلاقات في الثقافة العربية المعاصرة، فبعض الدول العربية، التي اتخذت موقف التزام مبدأ المسافة مع ما يحدث في الواقع؛ سارت خلفها شعوبها؛ في هذا الموقف، وأصبحت الشُّعوب ترغب هي الأخرى في العيش وفي الحياة؛ بعيدًا عن الإلزامات والمسؤوليات تجاه الآخر أي فلسطين، فالمسؤول عن ما يحدث في غزّة، هي حركة "حماس"، فهي التي قامت بالفعل يوم 7 أكتوبر، وهي من تتحمَّل كافة المسؤولية، وبدلًا من التَّضامن معها، يجب محاسبتها، وهذا هو القانون الخلدوني المفسّر: "العامة على دين الملك؛ والرّعيّة مقتدون به لاعتقاد الكمال فيه". ومستلزم هذا، هو انخراط جزء من الشعوب في تحميل حركة "حماس" المسؤولية مثل أنظمتها، خاصة وأنّ بعض الأنظمة العربية لا ترى في الحركات الإسلامية إلا شرًا مطلقًا حتى وإن كانت لسان حال المقاومة!
فهذه الرؤية تنسى التاريخ الإجرامي للكيان الصهيوني، وكيف أنّ السابع من أكتوبر ليس إلا ردة فعل على الإجرام الصهيوني وقد بلغ أوجه!
التَّاريخ لا يكتب دموع البكائين إنما يسجّل إنجازات الفاعلين
2. اهتلاك محركات الشعوب والاقتناع بالطابع الحشدي للمقاومة: لقد ناضلت الشعوب العربية كثيرًا، أو بالأحرى إنّ وجود الشعوب العربية والإسلامية يعادل النضال والمقاومة، فهي تسكن في المقاومة كما تسكن في العالم؛ من الاستعمار الأجنبي إلى الرغبة في التغيير الداخلي، فإلى التَّضامنات الحالية، ويبدو أنّ ما نلاحظه من اكتفاء الشعوب العربية بالتواجد الحشدي في المواقع وخوض الحروب من خلالها، من غير مبادرات ميدانية، يعكس اهتلاك محركات المقاومة، وبداية الاقتناع بأنّ الحشود والمظاهرات والدموع لا تصنع التاريخ، فالتَّاريخ لا يكتب دموع البكائين، إنما يسجّل إنجازات الفاعلين، أو إن التَّاريخ فيما تقول حنا أرندت، هو تاريخ الإنجازات وليس تاريخ الإرادات.
وهذا الموقف النفسي تعبير عن عدم جدوى الخروج والاحتشاد، وعندما توقَفت الشعوب العربية، بدأت المظاهرات الإنسانية وتشكل وعي إنساني جديد، يفهم عدالة القضية الفلسطينية، ويفهم البنية الاجرامية للكيان الصهيوني؛ وهو شكل من أشكال المجتمع المدني العالمي، وقد رأيناه من قبل في احتشاده رفضًا للحرب الأمريكية على العراق، فهو محدود التأثير في الفعل والقرارات الحاسمة، والدَّليل على هذا، هو خروج المجتمع المدني العالمي تعبيرًا عن رفض الحرب الأمريكية على العراق، لكنه لم يقتدر على التَّأثير في القرارات السياسية الكبرى وتم احتلال العراق!.
[1] قال الشيخ الجزائري الجليل البشير الإبراهيمي "مجلس الأمن مخيف، والراضي بحكمه ووضعه ذو عقل سخيف"
(خاص "عروبة 22")