لقد وقّع المغرب خلال العقدَيْن الماضيَيْن عددًا من اتفاقيات التبادل الحر، سواء مع قوى اقتصادية عالمية مثل الولايات المتحدة الأميركية وتركيا، أو ضمن أطرٍ عربيةٍ مثل اتفاقية "أكادير" التي شملت كلًا من مصر، والأردن، وتونس. وعلى الرَّغم من أنّ هذه الاتفاقيات كانت تحمل في طيّاتها وعودًا بتعزيز المبادلات التجارية، وتنويع الأسواق، ورفع القدرة التنافسية، فإنّ الحصيلة العامة، وبخاصّة بالنسبة إلى المغرب، تبدو اليوم دون سقف التوقعات، إن لم تكن في بعض الحالات قد أفرزت نتائج عكسية.
فعلى مستوى اتفاقية أكادير، لم تتمكّن الدول الأطراف من تطوير مبادلاتها التجارية بشكلٍ ملموسٍ، والسبب لا يعود فقط إلى بنود الاتفاق في حدّ ذاته، بل إلى عراقيل موضوعية تتمثّل في ضعف الرّبط الجغرافي، وغياب شبكات نقل بحري منتظمة بين الضفتَيْن الغربية والشرقية للوطن العربي، وكذا ارتباط اقتصادات هذه الدول - بشكلٍ متفاوت - بشبكات الإنتاج العالمية التي تتحكّم فيها قوى اقتصادية كبرى، على رأسها الاتحاد الأوروبي.
الرّهان على الاتفاقيات الثنائية عمّق حالة التجزئة والانكفاء الوطني وزاد من تبايُن الخيارات الاقتصادية بين الدول العربية
في الحالة المغربية، تتجلّى هذه التبعيّة بشكلٍ صارخ: أكثر من 70% من المُبادلات التجارية للمغرب مرتبطة بالاتحاد الأوروبي، وهي نسبة تترجم بنيةً تجاريةً موجهةً نحو أوروبا، وثقافةً مؤسّساتيةً تتفاعل في إطار الشراكة المغربية - الأوروبية التي تطوّرت في شكل اتفاقياتٍ تجاريةٍ مُعمّقة. لقد أصبحت المقاولات المغربية تستجيب لمتطلّبات السوق الأوروبية، من حيث الجودة، والمعايير الصحية، وآجال التسليم، في حين لم تُولِ الاهتمام ذاته لتفعيل اتفاقيات التبادل الحر مع الدول العربية، ممّا جعل هذه الاتفاقيات مجرّد نصوص من دون مضمون تجاري حقيقي.
لا يقتصر الأمر على الفضاء العربي فقط، بل يمتدّ أيضًا إلى الاتفاقيات الثنائية مع قوى غير عربية مثل تركيا والولايات المتحدة. هذه الاتفاقيات، وعلى الرَّغم ممّا تُتيحه من انفتاحٍ تجاريّ، أدّت إلى تفاقم العجز التجاري المغربي بشكلٍ مثيرٍ للقلق، بخاصة مع تركيا، إذ أصبحت السوق المغربية، وِفق تقارير رسمية، غارقةً بالمنتجات التركية التي تنافس الصناعات المحلية بشكلٍ غير متكافئ. وهو ما دفع بعددٍ من الفاعلين الاقتصاديين المغاربة إلى المطالبة بمراجعة أو حتى تعليق بعض هذه الاتفاقيات، بدعوى حماية النسيج الإنتاجي الوطني، والحفاظ على السيادة الاقتصادية.
هل تملك الدول العربية الوعي بمصيرها الاقتصادي الواحد وهل تدرك أنّ الاقتصاد يمكن أن يكون القاطرة نحو التقارب؟
في هذا السياق، تُطرح تساؤلاتٌ مشروعة: هل فشلت هذه الاتفاقيات، وخصوصًا في بُعدها العربي، في تحقيق الحدّ الأدنى من الأهداف التي وُضعت من أجلها؟ وهل يمكن اعتبارها بديلًا واقعيًا أو مُستدامًا لمنظومة التعاون الاقتصادي العربي التي لم تُفعّل يومًا بالشكل المؤسّسي المطلوب؟.
الواقع أنّ الرّهان على الاتفاقيات الثنائية لم يُعوّض فعليًا غياب آليات السوق العربية المشتركة، بل على العكس، عمّق حالة التجزئة والانكفاء الوطني، وزاد من تبايُن الخيارات الاقتصادية بين الدول العربية. إنّ منطق كلّ دولة على حدة، والارتهان إلى تكتلاتٍ خارجيةٍ، أضعفا الموقع التفاوضي الجماعي للعرب في المحافل الدولية، وخلقا تشوهاتٍ بنيويةً في الاقتصادات الوطنية، إذ أصبحت الاستجابة للأسواق الخارجية - لا للأسواق العربية - هي المُحدّد الأساسي لخيارات الإنتاج والاستثمار.
وما يزيد الصورة قتامةً هو ضعف البنية التحتية المشتركة، وغياب رؤية اقتصادية عربية موحّدة، وغياب إرادة سياسية تتجاوز الصراعات الثنائية. وقد كشفت الأزمات العالمية الأخيرة، مثل الحرب الروسية - الأوكرانية، والحرب في غزّة، والتوتّر المُتصاعد بين الصين والولايات المتحدة، فضلًا عن أزمة الرسوم الجمركية، عن هشاشة الاقتصادات العربية وفرط تبعيّتها، بل وخطورة غياب أي منظومة تعاون إقليمي حقيقية.
الاتفاقيات الثنائية والشراكات المحدودة لا يمكن أن تعوّض غياب مشروع تكامليّ عربيّ مؤسّس على مصالح مشتركة
أعادت هذه الأزمات طرح الأسئلة ذاتها: هل تملك الدول العربية الوعي المشترك بمصيرها الاقتصادي الواحد؟ وهل تدرك أنّ الاقتصاد - وليس السياسة وحسب - يمكن أن يكون القاطرة نحو التقارب، وربّما المصالحة؟.
تُحيلنا كلّ هذه المؤشرات إلى حقيقةٍ لا يمكن التغاضي عنها: لا الاتفاقيات الثنائية، ولا الشراكات المحدودة، يمكن أن تعوّض غياب مشروعٍ تكامليّ عربيّ حقيقيّ، مؤسّسٍ على مصالح مشتركة، وشبكات إنتاج إقليمية، وفضاء تجاري موحّد. وإذا ما استمرّ الوضع على ما هو عليه، فإنّنا لا نخاطر بفقدان الفرصة الاقتصادية وحسب، بل بتكريس المزيد من التهميش العربي في خريطة الاقتصاد العالمي.
إنّ الدرس المُستخلص من التجربة المغربية، ومن تجارب عربية أخرى، يؤكّد أنّ التكامل ليس ترفًا فكريًا، بل ضرورة استراتيجية، وأنّ الاتفاقيات الثنائية قد توفّر حلولًا مؤقتة، لكنّها لا تصنع مصيرًا مشتركًا.
(خاص "عروبة 22")