ولم يكن قرار المستعمرين الأوروبيين الإنكليز والفرنسيين، في إنشاء الكيان الصهيوني، ناتجًا عن مظلوميّة اليهود الأوروبيين من قبل ألمانيا النازية ومحارقها المُضخّمة ضدّ اليهود، فقد كان يهدف لإحكام السيطرة على الأقطار العربية، وتقويض إمكاناتها وقدراتها واستقلالها والنيل منها والعبث بسياداتها، وزرع المُفخّخات العِرقية والإثنية والطائفية في تضاريس نُظمها المُستنسخة من الدساتير الأوروبية، كما وفي تضاريسها الجغرافية حيث فعلت مقصّات "سايكس - بيكو" في خرائطها الأفاعيل ما سمح بالاستثمار على تناقضات التداخُل الحدودي بين الدول العربية الوليدة.
تجزم الكثير من التقارير بأنّ جون كينيدي اغتيل مباشرةً بعد طلبه تفتيش مفاعل "ديمونة" عام 1961
لهذا كان إنشاء إسرائيل، ضرورةً استعماريةً أوروبية، أكثر ممّا هو تكفير عمّا فعله نازيو أوروبا باليهود الذين كانوا يبحثون عن جغرافيا يُقيمون عليها دولةً في أوغندا وغيرها. بهذا المعنى، فإنشاء الكِيان هو مصلحة أوروبية عليا بالدرجة الأولى، ولأجل هذه المصلحة عمد الغرب الأوروبي إلى تكريس هيمنة الكيان المُصطنع ومدّه بأسباب القوّة المتجاوزة للقوّة وبأنيابٍ نوويّة.
من هنا كانت مبادرة فرنسا الاستعمارية في إنشاء مفاعل "ديمونة" لإنتاج السلاح النووي، ومن خلف الولايات المتحدة التي تجزم الكثير من التقارير التي رُفعت عنها السريّة، بأنّ رئيسها جون كينيدي اغتيل مباشرةً بعد طلبه تفتيش مفاعل "ديمونة" عام 1961 وتهديده بقطع المساعدات عن إسرائيل.
وقد شكّلت الترسانة النووية الإسرائيلية الضمانة الكبرى لأمن الكيان الصهيوني. وبدا امتلاك السلاح النووي القدرة الممنوعة عن العرب لتحقيق التوازن مع إسرائيل. وفي هذا السياق، سُجّلت مبادراتٌ عربيةٌ جادّةٌ لبناء قوّةٍ نوويةٍ وامتلاك السلاح النووي، وأهمّها العراق بقيادة صدّام حسين، وليبيا القذّافية.
وعلى الرَّغم من أنّ "مفاعل تمّوز" الذي أنشأه الفرنسيون في العراق، هو مفاعل للطاقة السلمية وليس التسليحية، بحسب العالم النووي العراقي الدكتور حامد الباهلي رئيس لجنة تشغيل "مفاعل تمّوز"، فقد قامت إسرائيل بقصفه بـ16 صاروخًا في 7 حزيران 1981. كما عملت قبل ذلك على تدميره في المصانع الفرنسية، ثم على محاولة سرقته في طريقه من فرنسا إلى العراق. ويومها، أدانت "الوكالة الدولية للطاقة الذرية"، في بيانٍ غير مسبوقٍ، بل وغير ملحوقٍ، عدوان إسرائيل على المفاعل العراقي الذي حظيَ بموافقة وشروط الوكالة الدولية للطاقة الذرية، ثم تبنّى مجلس الأمن الدولي بيان الوكالة الدولية في القرار الشهير 487.
الغرب يمارس "البلطجة الاستعمارية" بحقّ دول وشعوب البلاد العربية انطلاقًا من قاعدته المتقدّمة في فلسطين المحتلّة
وعلى قاعدة التوازن مع الكيان الإسرائيلي، كان للجماهيرية الليبية بقيادة العقيد معمر القذّافي طموحاتها النووية في امتلاك أسلحة الدمار الشامل، وقد قطع المشروع الليبي شوطًا كبيرًا من دون بلوغ اللحظة الحاسمة، إذ سرعان ما حوصرت ليبيا التي كانت تشكّل أحد أبرز حواضن المقاومة الفلسطينية تدريبًا وتسليحًا وتمويلًا، وفُرضت عليها العقوبات الاقتصادية، ثم تعرّضت لحصارٍ دوليّ على خلفيّة ما عُرف بـ"قضية لوكربي"، وتخلّله عدوان أميركي - بريطاني لاغتيال القذّافي عام 1986، إلى أن أتى غزو العراق عام 2003 تزامنًا مع مفاوضاتٍ بين طرابلس ولندن وواشنطن أفضت إلى رفع الحصار عن ليبيا التي دفعت مهرًا سياسيًا ثمينًا وهو إعلانها التخلّي عن برنامج أسلحة الدمار الشامل، وقد ضاعف من قيمة المهر السياسي أنّ الإعلان الليبي تزامن مع إعلانٍ مُدَوٍّ آخر، هو اعتقال الرئيس العراقي صدّام حسين، وأنّ تخلي ليبيا القذّافية عن برنامجها منحها بوليصة تأمين سياسية لبضع سنوات.
ثمّ تصدّت إيران لوراثة الفراغ النووي الذي أحدثه غياب صدّام حسين ومعمر القذّافي وأيضًا حافظ الأسد ومشروعه للتوازن الاستراتيجي مع إسرائيل. فعمدت إيران إلى الإفادة من معرفة وخبرة العراق وعلمائه في جهاز التصنيع العسكري نوويًا وصاروخيًا بحيث لم يعد سرًّا أن صواريخ "فتّاح" الباليستية الإيرانية هي تطويرٌ لصواريخ "أبابيل" العراقية التي قصفت تل أبيب عام 1991.
التخادم الإيراني - الأميركي جعل إيران تتوهّم بقدرتها على تأمين التزاوج بين متطلّبات التخادم وشعارات "الموت لأميركا"
ضمان التفوّق الإسرائيلي هو استراتيجية القوى الاستعمارية الكبرى، الأوروبية بالأمس، والأميركية اليوم. ولأجل ضمان هذا التفوّق كلّنا تابعنا كيف تحوّلت أوروبا والولايات المتحدة إلى مُزوّدٍ استراتيجي بالأسلحة والذخائر لإسرائيل في الحرب على غزّة ولبنان ومع إيران، وكيف تحوّلت إسرائيل بوصفها قاعدة غربيّة متقدّمة، إلى عصا طويلةٍ ضدّ كل من يحاول تهديد أمنها باعتباره تهديدًا للأمن الإقليمي والعالمي. وعلى هذا الأساس، لم يزلْ هذا الغرب بكله وكلكله يمارس هذه "البلطجة الاستعمارية" بحقّ دول وشعوب البلاد العربية انطلاقًا من قاعدته المتقدّمة في فلسطين المحتلّة.
ولعلّ التخادم الإيراني - الأميركي الذي انطلق مع غزو أفغانستان والعراق واحتلالهما، ساهم في جعل إيران تتوهّم بقدرتها على تأمين التزاوج بين متطلّبات التخادم من جهة، وبين رفعها لشعارات "الموت لأميركا، والموت لإسرائيل، وسنصلّي في القدس"، من جهةٍ أخرى. وعندما أيقنت إيران انتهاء مفاعيل صواريخها الصوتيّة، وبعد أن التفّ الحبل حول رقبتها بعد النيل من "أذرعها"، عمدت إلى تذخير صواريخها بصواعقها التفجيرية مُحدثةً خلال حرب الاثني عشر يومًا حالةً من الدمار الدقيق وغير المسبوق الذي أصاب قلب إسرائيل وأطرافها وهيبتها.
تتمسّك إيران بحقّ التخصيب ولو كلّفها أثمانًا باهظة إلّا إذا نجح ترامب ونتنياهو في خداعها ومباغتتها مرّةً أخرى
وبعيدًا عن المفاجأة المُتبادلة بما فعلته إسرائيل في اليوم الأول من الاختراقات الخطيرة وتصفية القيادات العسكرية والنووية الإيرانية، وعمّا فعلته صواريخ إيران التدميرية في إسرائيل، وما استتبع ذلك من ضرب المقاتلات الأميركية للمفاعلات النووية في "نطنز" و"أصفهان" و"فوردو"، فرضت الخسائر المُتبادلة وغير المتناسبة نفسها في معادلات دونالد ترامب لوقف إطلاق النار من دون فكّ لغز مصير الـ500 كلغ من اليورانيوم المُخصّب.
وفي طريقها لكي تصبح "إيرانيوم"، وندًّا حقيقيًا لـ"إسرانيوم"، تختزن إيران في ذاكرتها النووية مآلات نهايات نظامَيْ صدّام حسين ومعمّر القذافي بعد خسارتهما مشروعَيْهما النوويَيْن، لذلك فهي تتمسّك بحقّ التخصيب وولوج العتبة النووية "السلمية" ولو كلّفها الأمر أثمانًا باهظةً جديدة... إلّا إذا نجح ترامب ونتنياهو في خداعها ومباغتتها مرّةً أخرى... وأخيرة، تمهيدًا للطريق أمام اتفاقات السلام والتطبيع من سوريا إلى إندونيسيا!.
(خاص "عروبة 22")