في هذا المعنى، يتحدّث المفكر الفلسطيني المرموق عن "تشريق الشرق". فالشرق، في مخيال البعض، عالم السحر الغامض الذي يذكّيه خيال الشعراء والمتطلّعين إلى المغامرة والبحث عن العجيب الغريب. وهو، لدى البعض الآخر، أرض المواد الأوليّة التي تتلهّف الرأسمالية الصناعية إلى امتلاكها، والشرق عند آخرين، مسالك تجارية وسبل جغرافية تستدعي الهيمنة الدوليّة لإحكام السيطرة عليها.
الشرق ليس النقيض للصورة النمطية للغرب فحسب بل إنّه العالم المُستباح للسيطرة والاستغلال والتنافس عليه
كلٌ "يُشرِّق" الشرق على هواه وكلٌ يرسم له، في وعيه، صورةً تعكس أحلامه الخفيّة واستيهاماته، وربّما صح القول إنّ الصور التي تُرسم للشرق تُخبر عن الذين يرسمونها أكثر ممّا تتحدّث عن الشرق، من حيث هو جهة من جهات المعمور وليس كوكبًا مُنفصلًا عنه. أضف إلى ذلك أنّ الدراسات الاستشراقية لم تكنْ تُفيد، على امتداد القرون الأربعة الماضية التي شهدت ميلاد الاستشراق وتطوّره في الغرب الأوروبي، بل كانت في أوّل الأمر تشمل الشرقَيْن الأدنى والأقصى، قبل أن تصبح، منذ القرن ما قبل الماضي، مقتصرةً على العالمَيْن العربي والإسلامي. وفي الأحوال كلّها، كان الشرق يُمثّل في الفكر الغربي صورة النقيض المُطلق، لما كان الذين يقومون بعمل "تشريق الشرق" يقدّرون أنّه حال الغرب: عالم الصناعة والعقلانية والإنتاج من جهة، وأرض الحرية وحقوق الإنسان من جهةٍ ثانية.
أمّا الشرق فليس الضدّ النقيض للصورة النمطية للغرب فحسب، وليس تجسيدًا للأطماح والاستيهامات من أصنافٍ شتّى، بل إنّه العالم المُستباح للسيطرة والاستغلال والتنافس عليه. ثم إنّ الاستشراق أو "التشريق" بالأحرى، لم يُعدم من الإيديولوجيا التبريرية السند النظري والسيكولوجي لذلك.
ومع إدراكنا للأهمية العظيمة للرجوع إلى إدوارد سعيد في المرحلة الراهنة، مع ما في نظريّته من تنويرٍ لجوانب حالكةٍ من حياتنا الفكرية اليوم، فإنّ بسط نظريّة صاحب "الاستشراق" ليس مطلبنا في هذا الحديث، وإنّما نحن نُمهّد بهذه الفذلكة لكي نخوض في أمر قضيةٍ مماثلةٍ، أو لِنَقُلْ إنّنا نودّ إثارة الانتباه إلى أنّ نوعًا من المماثلة، من جهة الفعّالية السيكولوجية والوظيفة الإشباعيّة، يقوم بين "التشريق" عند الغربيين وبين "التغريب" عندنا.
لا نحسب أنّنا نبالغ متى قلنا إنّ الخطاب العربي المعاصر، "منذ فجره الأول مع ولوجنا الحقبة التي نتواضع على نعتها بعصر النهضة العربية" حتى يومنا هذا، يعكس تمثّلاتٍ للغرب ارتسمت في الوجدان العربي المعاصِر بكيفياتٍ متعدّدة، تتفاوت بين الإعجاب الشديد وبين التسفيه والرّفض المُطلقَيْن. تمثّلات مختلفة، متصارعة هي، في نهاية التحليل، قوام كلّ تيّار من تيارات الفكر العربي المعاصر وقومه.
الغرب الأوروبي والشمال الأميركي أبعد ما يكون عن الوحدة والانسجام
في وعينا الثقافي العربي، يحضر الغرب بشكلٍ مختلف، وقد كان ذلك الوعي تمثّلًا لأحلامٍ وخيباتٍ من أصناف شتّى، وقد كان رصدًا لحركة المجتمع، إلى حدٍّ بعيد. ففي كلّ الرؤى التي تصدر عنها تيّارات الفكر العربي المعاصر، منذ كتابات رحّالينا العرب إلى البلاد الأوروبية، منذ ثلاثينيّات القرن التاسع عشر، إلى محاولات التنظير التي امتلأت بها الساحة الثقافية العربية في سبعينيّات ثم ثمانينيّات القرن الماضي، تمثّل في الخطاب العربي "للغرب"، صورة نمطية واحدة مع ما يبدو في ظاهرها من تنوّعٍ واختلاف. ولعلّ السمة البارزة في تلك الصورة هي أنّها ترى في الغرب الأوروبي، في مرحلةٍ أولى، ثمّ في الغرب وهو يشمل الشمال الأميركي بعد ذلك، غربًا واحدًا مُنسجمًا، والحال أنّه أبعد ما يكون عن الوحدة والانسجام.
ولأسبابٍ كثيرةٍ، يضيق المجال في حديث اليوم، عن تسطيرها نقول إنّه، من أجل إعادة التفكير في الذّات، وتمهيدًا لتلك الاستعادة، علينا ألّا نغفل أنّنا في حاجةٍ إلى مراجعةٍ للكيفيّات التي نقوم بها بعمل "تغريب الغرب".
(خاص "عروبة 22")