"يصعب وجود دول أخرى أوصلها سلوكها إلى لاهاي مرتين متتاليتين في غضون بضعة أسابيع"؛ بهذه الكلمات عبّر الكاتب الإسرائيلي جدعون ليفي في صحيفة "هارتس" عن الوضع الذي وجد الكيان الصهيوني ذاته فيه بعد نحو خمسة أشهر من عدوانه على قطاع غزّة، فلاهاي مقر محكمة العدل الدولية، تبدو اليوم مقصدًا للمدافعين عن الكيان المحاصر بالدعاوى القانونية من كل حدب وصوب.
لقد اعتاد الصهاينة منذ نشأة دولتهم على أرض فلسطين تكرار سردية دعائية محددة سلفًا وهي سردية الضحية، فهم كيان صغير محاصر من قبل دول معادية له لا بسبب اغتصاب أرض أو تشريد شعب وإنما ببساطة - وفقًا للمنطق الصهيوني - بسبب تعصّبهم الديني وكراهيتهم لهم كيهود فقط.
وكرّست كل من حربي عام ١٩٤٨ و١٩٦٧ هذه السردية، فالصهاينة يحاربون كما يدعون للبقاء في وسط محيط عربي معادٍ، ويواجهون جيوشًا عربية عدة تفوقهم عددًا وهم على الدوام في حالة دفاع مشروع عن الذات.
ولا يخفي على القارئ كم ساهمت هذه السردية التي رددتها أفلام هوليوود ومنابر الدعاية في كل أوروبا وأمريكا الشمالية في خلق تعاطف مع دولة الاحتلال استثمره الصهاينة في إكساب كيانهم قدرًا من الحصانة ضد المحاسبة القانونية خاصة في ظل وجود حق نقض "فيتو" أمريكي في مجلس الأمن يقيهم دومًا من الإدانة وإن اجتمعت عليها أغلب الدول الأعضاء.
لكنّ أمرًا ما تغيّر مع اندلاع الانتفاضة الفلسطينية الأولى في عام ١٩٨٧، هنا ولأول مرة تواجه الدعاية الصهيونية تناقضًا فادحًا تعجز عن تفسيره، فجندها لا يواجهون هذه المرة جيوشًا عربية جرارة مدججة بسلاح وإنما يواجهون أطفالًا قاصرين لا يملكون من سلاح سوى الحجر.
بدأت السردية المشار إليها أعلاه تتهاوى تدريجيًا مع انتشار صور الجنود الصهاينة وهم يهشّمون عظام الأطفال ويعتقلون الصغار بشكل معاكس تمامًا للصورة التي حرص الصهاينة على تكريسها على مدار نحو نصف قرن، فبات الفلسطيني هو "داوود" الجديد الذي يواجه بمقلاع "جالوت" الصهيوني.
وبعد أكثر من ثلاثين عامًا من تلك الانتفاضة الباسلة، تعود الدعاية الصهيونية اليوم بفعل حرب غزّة لتجد ذاتها تواجه مازقًا حقيقيًا: فما لم تسجله الكاميرا من تشريد وقتل في عام ١٩٤٨ بات اليوم موثّقًا بالصوت والصورة من قتل للاطفال وقصف للنازحين واستهداف للمشافي بشكل يصعب معه - إن لم يكن من المستحيل - أن يلعب الصهاينة دور الضحية الذي اعتادوا على لعبه أو أن يقنعوا أحدًا به.
ولعل أحد أبرز وجوه إخفاق الدعاية الصهيونية اليوم هو تصويت أكثر من ١٧٤ في الجمعية العامة للأمم المتحدة لصالح وقف عمليتها العسكرية - أو قُل مجازرها - في قطاع غزّة في حين عارضت القرار ٤ دول فقط من بينها بطبيعة الحال الولايات المتحدة.
ويبرز هذا الإخفاق بشكل أكبر في ساحات محكمة العدل الدولية التي تم جرّ الكيان الصهيوني إليها جرًا على يد دولة عانى شعبها الأمرّين من نظام فصل عنصري مماثل لما يعيشه اليوم شعب فلسطين، هي جنوب أفريقيا التي كان الصهاينة حلفاء لنظامها العنصري حتى سقوطه أواسط التسعينات.
لعل أبرز ما في دعوى جنوب أفريقيا التي تنظرها محكمة العدل الدولية حاليًا هو أنّ الكيان الصهيوني يمثل ولأول مرة كمُتّهم بالإبادة، لينضم بذلك الكيان الذي طالما تباهى بكونه "الديمقراطية الوحيدة" في المنطقة إلى دول مثل صربيا وميانمار وغيرها ممن مثلوا مُتّهمين بالتهمة ذاتها أمام المحكمة نفسها.
ولعل الأهم، هو إدراك المسؤولين الصهاينة ولأول مرة في تاريخ كيانهم أنهم لم يعودوا يحظون بحصانة تخولهم قول ما شاؤوا وفعل ما أرادوا، إذ إنّ تصريحاتهم التي أطلقوها منذ بداية المعركة والتي تنضح بعنصرية مقيتة باتت قرينة ضدهم استخدمها الفريق القانوني لجنوب أفريقيا وأقرّتها المحكمة كدليل.
ويزداد مأزق الدعاية الصهيونية وضوحًا مع نظر المحكمة المذكورة نفسها في تبعات الاحتلال الصهيوني للأراضي الفلسطينية، حيث برزت العزلة الصهيونية جلية مع تقدّم أكثر من خمسين دولة لتقديم مرافعات في تلك القضية.
وباستثناء مرافعة الولايات المتحدة الأمريكية، فإنّ أغلب المرافعات كرّست مبدأ إدانة الاحتلال والإقرار بحق الشعب الفلسطيني في مقاومته بما في ذلك المقاومة المسلّحة كما أكدت مرافعة الجانب الصيني.
إنّ المعركة القانونية التي تدور رحاها حاليًا في أروقة محكمة العدل الدولية، وأيًا كان حكم هذه الأخيرة، قد أسقطت وبشكل تام السردية الصهيونية التي تقوم على لعب دور الضحية، وهي نتيجة ما كان يمكن الوصول إليها لولا بسالة المقاومة الفلسطينية والصمود الأسطوري لشعب فلسطين في معركة هي الأطول منذ نشأة هذا الكيان وحتى اليوم.
(خاص "عروبة 22")