بصمات

الإسلام الفرنسي.. والإسلام في فرنسا

لا يتعلق الأمر البتة، في العنوان أعلاه، بحذلقة لفظية أو لعب بالكلمات وإنما بتعبير عن واقع قائم أو، بالأحرى، عن خطاب يروّج في فرنسا في العقود الثلاثة الأخيرة. لكلا العبارتين ("الإسلام في فرنسا"، و"الإسلام الفرنسي") حمولته النفسية ودلالته الإيديولوجية ونفحته السياسية القوية.

الإسلام الفرنسي.. والإسلام في فرنسا

فأما "الإسلام في فرنسا" فقول محايد وتوصيف لمعطى تاريخي – حضاري من جانب أول، وهو، من جانب ثانٍ، تعبير عن اللاييكية التي كثر القول فيها وكذا عن "روح الجمهورية" - كما يعشق الفرنسيون الحديث عنها. نقصد بالمعطى التاريخي-الحضاري حضور الإسلام بحسبانه تراثًا انسانيًا كونيًا وانشغالًا به من قبل باحثين مرموقين كبار لهم، لا شك في ذلك، على الفكر الإسلامي أيادٍ بيضاء (فليس يجحد ذلك سوى جاهل أو منكر تحركه دواعي ليست تمت للعلم وللبحث العلمي بصلة).

"إسلام فرنسا" حديث يسطر للفارق بين الإسلام "المقبول" والآخر "المرفوض"

أذكر من تلك الأسماء، على سبيل التمثيل فقط فالحصر متعذر أو هو يتطلب إسهابًا كثيرًا: لوي ماسينيون، ريجي بلاشير، اميل لاوست وهنري لاوست، فانسان مونتيي، روجي أرنالديز، الآنسة غواشون، أندري ميكيل... واللائحة طويلة جدًا. كما أذكر جماعة مجلة "أرابيكا" و"ستوديا اسلاميكا" وأذكر كوكبة العلماء الفرنسيين الذين أسهموا في تحرير مواد أساسية في "دائرة المعارف الإسلامية" في نسختها الفرنسية. كما يجدر التنبيه، في معرض هذا أنّ نصوصًا غير قليلة من التراث الفلسفي والكلامي في الإسلام قد عرفت طريقها إلى النور، في نشرات علمية محققة، بفضل جهود من أشرتُ إلى البعض منهم فضلًا عن ثلة من أساتذة الجامعة الفرنسية في الصوربون وفي مدرسة اللغات الشرقية وغيرهما. وبالجملة فقد تأسّس في فرنسا، خلال عقود متصلة مند منتصف القرن التاسع عشر، التقليد العلمي الذي نعبّر عنه اختصارًا بـ"الإسلامولوجيا"- ثم انّ زمرة من خيرة الباحثين والأساتذة العرب، من المشتغلين بالدراسات الإسلامية، كانوا تلامذة للكثير ممن ألمحتُ لهم بالإشارة فكان لهم، مند ثلاثينات القرن الماضي، أثر في تطوير درس الفلسفة الإسلامية في جامعاتنا العربية..

وأما "إسلام فرنسا" فالشأن فيه آخر. فهو، أولًا، يتجاوز التوصيف العلمي أو الإشارة إلى "الإسلامولوجيا" ليغدو حكم قيمة ويعبّر عن موقف سياسي واختيار إيديولوجي. وبالتالي فهو حديث يرسم للإسلام الصورة على النحو الذي يلزم لها أن تكون عليه. لنقل، في عبارة أخرى، إنه حديث يسطر للفارق بين الإسلام "المقبول" والآخر "المرفوض" (أو غير المرغوب فيه على الأقل).

لا يعني "إسلام فرنسا" في شيء، رجال الجامعة والمنشغلين بشؤون "الإسلامولوجيا" وقضاياها. وانّ من الإنصاف أن نذكر، من منصّة "عروبة 22" تحديدًا، أنّ هؤلاء الأخيرين لا يستسيغون البتة الحديث عن "إسلام فرنسا" ولا يرون أنّ المهتمين بقضية "الظاهرة الإسلامية" (في فرنسا وفي غيرها من العالم الغربي) يمتون إلى حقول "الدراسات الإسلامية الأكاديمية" بصلة. والحق أنّ حديث "إسلام فرنسا" يتصل بالحكومة الفرنسية وبإدارة الشأن العام فيها. ربما كان الكثيرون يجهلون أنّ التسمية الرسمية لوزارة الداخلية الفرنسية هي "وزارة الداخلية وشؤون العبادات" (ministère de l’intérieur et des cultes). كما قد يجهل الكثيرون أيضًا أنّ "اللاييكية"- (أي الفصل بين الدين والدولة واعتبار الدين من مجال الشأن الخاص) ليس مبدأ ساري المفعول في كل الأراضي الفرنسية، فهو ليس ملزمًا للفرنسيين في بلاد ما وراء البحار. وليس يخفى على المواكبين للشأن الفرنسي أن وزارة الخارجية الفرنسية تولي حدبا ورعاية خاصين لكل الجهات والأشخاص الدين يظهرون اهتمامًا بواقع المسلمين في فرنسا – أي اعتبار الإسلام "ظاهرة اجتماعية" تستوجب العناية والاهتمام.

الإسلام يمثّل الديانة الثانية في فرنسا والساكنة المسلمة تشكّل من حيث هرم السن حجمًا كبيرًا في قاعدته

وليس يخفى أيضًا على الذين يتابعون الحياة الاجتماعية، والسياسية، في فرنسا أنه لا سبيل إلى إغفال أمرين هامين يتصلان بالوجود السياسي والاجتماعي في فرنسا. أولهما الارتفاع المتوالي في أعداد المهاجرين إلى فرنسا من شعوب دول المغرب العربي الثلاث (الجزائر، المغرب، تونس)، وكذا المهاجرين إليها من السنغال ومالي والنيجر - مند ستينات القرن المنصرم خاصة، جعل النسبة العامة للمسلمين في الجمهورية الفرنسية لا تقل عن عشرة في المائة (وربما رأي البعض أنها تقارب 15 في المائة، فليست هناك إحصائيات رسمية في هذا الصدد - فقوانين الجمهورية تجرم طرح السؤال المتعلق بالتدين والدين). ومن الناحية العملية فإنّ الإسلام يمثّل الديانة الثانية في فرنسا - أضف إلى ذلك أنّ الساكنة المسلمة تشكّل، من حيث هرم السن، حجمًا كبيرًا في قاعدته. وثاني الأمرين هو أنّ "مسلمي فرنسا" يشكلون سواد ساكنة الأحياء الفقيرة الحادثة النشأة في المدن الفرنسية الكبرى (وهي الأحياء التي تحمل، في الحديث الشعبي عنها، نعوتًا دالة: الأحياء الساخنة، الهامشية، الخطيرة..) - وللحديث بقية.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن