قضايا العرب

الفلاحة التونسية في مهب التغيّرات المناخية.. والخبراء يحذّرون!

تونس - فاطمة البدري

المشاركة

بدأت التغيّرات المناخية بالتأثير بشكل مباشر على الفلاحة في تونس في ظل موجات الحر متزايدة الطول والتكرار في السنوات الأخيرة والتي تجاوزت الـ50 درجة مئوية والتناقص الكبير في معدلات الأمطار وتراجع الاحتياطات المائية لأدنى مستوياتها، والجفاف غير المسبوق الذي يهدد جديًا الأمن الغذائي للبلاد، والحرائق الهائلة التي أصبحت تضرب سنويًا المناطق الخضراء.

الفلاحة التونسية في مهب التغيّرات المناخية.. والخبراء يحذّرون!

"كنتُ أزرع القمح والشعير والخضروات للاستهلاك العائلي والحيواني وللبيع وأحصل سنويًا على محصول يكفيني ويرضيني، وكل ذلك باعتماد مياه الأمطار حصرًا. ولم أكن أيضًا أحتاج لشراء الأعلاف لماشيتي (أبقار وأغنام) على مدار السنة إلا نادرًا وحتى عندما أضطر لذلك كانت الأسعار مناسبة وفي متناولنا نحن صغار الفلاحين. لكن منذ أربع سنوات بدأ الوضع يتغيّر، توقفت الأمطار فجأة عن الهطول ومعها بدأت مآسينا"...

... هكذا يروي العم الهاشمي من منطقة المكارم من محافظة سيدي بوزيد (وسط غربي محافظة فلاحية بامتياز)، بمرارة لـ"عروبة 22" كيف انقلب حاله وحال العديد من صغار الفلاحين في مدينته بسبب الجفاف الذي ضرب البلاد.

ظنّ العم الهاشمي وأبناء منطقته خلال سنة الجفاف الأولى أنه موسم عابر وستعود "سنوات الخير"، لكن طال انتظارهم دون أن يحدث المأمول. فسنوات الجفاف طالت وأصبحت تهدد أحلامهم ووجدوا أنفسهم مضطرين لبيع جزء كبير من المواشي بعد أن باتوا عاجزين عن شراء الأعلاف التي تضاعفت أسعارها فضلًا عن عدم توفرها بشكل دائم.

يقول العم الهاشمي: "أربع سنوات مضت لم أزرع خلالها حبة قمح واحدة وأرضي أمست جدباء، لقد ذهبت سنوات الخير ونحن ندعو الله أن يعيدها، فالفلاحة مصدر رزقنا الوحيد ولا طاقة لنا لتحمل المزيد من سنوات الجفاف".

وتمثل الأراضي المزروعة 62 بالمئة من مساحة تونس (أي نحو 10 ملايين هكتار)، وتهيمن الفلاحة العائلية وصغار الفلاحين على المشهد الفلاحي التونسي، حيث تمثل الأراضي التي لا تتعدى مساحتها 10 هكتارات 75 بالمئة من إجمالي الأراضي المزروعة، حسب وزارة الفلاحة والموارد المائية والصيد البحري.

ويكابد الفلاحون في تونس من أجل الخروج بأخف الأضرار من تداعيات الجفاف الذي يضرب البلاد منذ أكثر من أربع سنوات لا سيما موسم 2023 الذي كان الأسوأ في تاريخ الفلاحة التونسية من حيث الخسائر. لا سيما مع غلاء تكاليف الإنتاج والتراجع الكبير بمخزون السدود والتوزيع غير العادل للمياه وعدم تقديم الدولة الدعم لصغار الفلاحين لمساعدتهم على مجابهة هذه السنوات الصعبة.

محاصيل الحبوب والزيتون والتمور تهوي

وكان لتراجع الأمطار وعدم انتظامها خلال السنوات الأخيرة تأثير سلبي على المحاصيل الزراعية، حيث أكدت وزارة الفلاحة التونسية أنّ محاصيل الحبوب تراجعت بنسبة 60 بالمئة عن مستوياتها المعتادة. فخلال موسم 2023 تم تسجيل تجميع 2.7 مليون قنطار من الحبوب، مقابل 7.5 مليون قنطار في موسم 2022 و15 مليونًا خلال موسم 2020.

ويؤثر انحباس الأمطار خلال أهم مراحل نمو الحبوب سلبًا على الإنتاج، ويؤدي هطولها في غير توقيتها إلى إتلافها على غرار نزول كميات من الأمطار خلال شهر يونيو/تموز 2023 التي أدت لإتلاف الحبوب أو إضعاف جودتها.

وقد أدى هذا الوضع لتسجيل نقص كبير في مادة الخبز في كامل البلاد الذي يعتمد في الأساس على القمح الصلب واللين، واضطرت البلاد للتوجه للتوريد في فترة تعيش فيها أزمة مالية واقتصادية خانقة. كذلك تسبّب الجفاف في ارتفاع أسعار الأعلاف ما أدى لتخلي المزارعين عن أبقارهم ما أدى بدوره لتسجيل نقص كبير في إنتاج الحليب الذي بالكاد كان يتوفر في بعض الفترات من السنة الماضية.

وهذا ما يؤكده الخبير التونسي في الشأن المناخي حمدي حشاد، الذي يرى أن ما تعيشه تونس من تواتر لموجات الجفاف المتواصلة منذ خمس سنوات بات يهدد بشكل فعلي الأمن الغذائي للتونسيين. ويقول حشاد لـ"عروبة 22ّ" إنّ "عدم القدرة على توفير الحاجيات الأساسية من الحبوب محليًا يدفع إلى الخروج إلى الأسواق الدولية وهذا مكلف بالنسبة لبلادنا التي تعاني نقصًا في العملة الصعبة".

ومن جانبه، يقول عضو مجلس نقابة المزارعين في تونس بيرم حمادة لـ"عروبة 22"إنّ "تغيّر المناخ تسبب في خفض المساحات المزروعة وتراجع المحاصيل، وكبد المزارعين خسائر مالية كبيرة. إذ تراجعت عدة زراعات بنسبة 50 بالمئة متأثرة بشح المياه وتتالي سنوات الجفاف. فمثلا تراجع إنتاج القوارص إلى 300 ألف طن سنة 2023 بعد أن كان يتجاوز في مواسم سابقة 500 ألف طن. وهذا الخطر يهدد كذلك بقية الزراعات وبما في ذلك الزيتون الذي يعد أهم صادرات تونس الفلاحية". 

وبلغ إنتاج الزيتون للموسم الحالي حوالى 900 ألف طن ما يعادل 180 ألف طن من الزيت، مقابل 1.2 مليون طن من الزيتون ما يعادل 240 ألف طن من الزيت في الموسم السابق، وذلك حسب معطيات وزارة الفلاحة. وكانت درجات الحرارة القياسية قد أثرت سلبا على أشجار الزيتون وجعلتها من جهة لا تنتج المعدلات السابقة ذاتها، ومن جهة أخرى جعلت حبات الزيتون شبه جافة وغير مروية بسبب ندرة التساقطات خلال شهري أكتوبر/تشرين الأول ونوفمبر/تشرين الثاني، في حين أنّ الزيتون يحتاج في هذه الفترة للمطر ولطقس بارد حتى تكون جودته عالية.  

وتحاول السلطات التونسية وضع خطط وخطوات لمواجهة هذه التحديات ولكنها ليست بحجم الانعكاسات المتسارعة لتغير المناخ. ومن بينها إعلان حالة الطوارئ المائية في مارس/آذار الماضي التي تم خلالها تحجير استعمال المياه الصالحة للشرب الموزعة عبر الشركة الوطنية لاستغلال وتوزيع المياه للأغراض الفلاحية وري المساحات الخضراء وتنظيف الشوارع والأماكن العامة وغسل السيارات، وتوعدت المخالفين بتسليط عقوبات. وقد تم تبرير هذه الخطوة بتواتر سنوات الجفاف وضعف إيرادات السدود ما انعكس سلبًا على المخزون المائي الذي بلغ مستوى غير مسبوق وكذلك التأثيرات السلبية في تغذية الموارد المائية الجوفية وتدني مستوى منسوبها. وهي خطوة قوبلت بكثير من السخط.

ويرى الخبير في الشأن المناخي حمدي حشاد أنه للتقليص من حدة تأثيرات التغيّرات المناخية على الفلاحة في تونس، فإنّ السلطات المعنية مطالبة "بتغيير الخارطة الزراعية ووضع استراتيجية لوقف استنزاف الموارد المائية وإيجاد البدائل بالاتجاه نحو زراعات أقل استهلاكًا للمياه وأكثر مقاومةً للجفاف، والتقليص من مساحات زراعة الفراولة والكرز والطماطم وغيرها من المنتجات المستهلكة للمياه، وهي في أغلبها معدة للتصدير".

كما أدت موجات الحر الكبيرة التي شهدتها البلاد في السنوات الأخيرة إلى اندلاع حرائق واسعة، تواترت خلال فصل الصيف، وشملت مناطق عديدة من البلاد، متسببة في إتلاف مساحات مهمة من النسيج الغابي والنباتي، وألحقت أضرارًا بالحيوانات. وخلال 2023 سجلت تونس 50 حريقًا أتى على مساحة 1777.65 هكتار، و255 حريقًا غابيًا في مختلف محافظات البلاد، أتت على أكثر من 5317 هكتار سنة 2022 بارتفاع بنسبة 11 في المئة عن سنة 2021. علمًا أن حرائق الغابات في تونس تتضافر فيها العوامل ما بين تداعيات تغيّر المناخ المتمثلة أساسًا في الارتفاع الكبير لدرجات الحرارة والعوامل البشرية المسؤولة بدورها عن عدد كبير من هذه الحرائق.

ولا تتوقف انعكاسات تغيّر المناخ على الانتاج الفلاحي وتواتر الحرائق في تونس بل تهدد أيضًا مواطن الشغل في هذا القطاع، حيث رجحت دراسة حديثة نشرتها وزارة البيئة مؤخرًا أن تفقد تونس 37000 موطن شغل في قطاع الفلاحة في أفق سنة 2030 في حالة حدوث جفاف شديد، بسبب التغيّر المناخي.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن