ويبدو أنّ قضايا نقد العقل العربي، والبحث في أنظمته المعرفية وسياقاته التّاريخية ومفاعيل تشَكُّلِه؛ وكذا كتابة تاريخية منظومة القيم في الثقافة الإسلامية، كانت من الدّوافع في نشأتها؛ هذه الهزيمة التي تركت أثرها السِّلبي في النفوس وفي العقول، وحَصل إجماع تاريخي؛ على أنَّ العقل الصهيوني قد هزم العقل العربي، وبالتَّالي، تعيَّنت وجهة التّفكير آنذاك، في إعادة بناء العقل، عن طريق تزويده بجديد النَّظريات العلمية؛ في مجال الفلسفة والمنطق، أو تنزيل الأدوات البحثية من فضاء العلوم الإنسانية والابستمولوجيا الغربية، لأجل امتحانه في ضوء هذه الأدوات وتلمُس مواطن ضعفه وقوته.
لعل الشعور الأكثر إيلامًا في قلب الإنسان الغزَّاوي هو تمزق العلاقة مع الإنسان العربي واكتفاؤه بالتفرّج
إنّ هذه الاجتهادات؛ قد استطاعت أن تخلق وعيًا نقديًا بطرائق التفكير وأساليب الكينونة في الحياة، مكَّنت نسبيًا من لفت الانتباه إلى أهمية التَّواصل الخلَّاق والإبداعي مع الموروث العربي، وكذا التَّواصل الإبداعي مع راهن الفكر والعلم في السياق الغربي، ويجدر القول هنا، إنّ هذا الخط الفكري الذي أرَّخَ لنفسه، انطلاقًا من الأثر النَّفسي والعقلي لهزيمة العرب أمام الكيان الصهيوني في سنة 1967، قد استغرقه النّقد، ولم يقتدر على البناء النّوعي، الذي يُعَيِّن مفاتيح التفكير ومسالك التدبير، فالهزائم عادة تحيي ملكة النّقد؛ أكثر مما تُقَوي ملكة البناء والتجديد، لذلك لا عجب أن نُسمي الزّمن العربي بعد الهزيمة أنّه زمن النّقد: نقد العقل العربي... نقد العقل الإسلامي... نقد الحداثة... نقد النقد...
الهزيمة الثانية للعقل العربي: هزيمة 2023
لكن هذه المرحلة التّاريخية والمعرفية، التي شخَّصت الأزمة في طرائق التفكير العقلية، قد حلَّت محلها اليوم أمام مرائينا ومسامعنا هزيمة أخرى، هي الهزيمة الأخلاقية! وتتجلّى هذه الهزيمة هنا، في ضُمور الشُّعور بالآخر، والانكفاء على الذات تلبية لرغباتها وبحثًا محمومًا عن المزيد من المُتَعِ والرفاهية؛ لأنّ الأخلاق في مفهومها؛ إنّما هي صِلة أو علاقة: مع الذَّات أولًا، ومع الآخرين ثانيًا، ومع النَّوع البشري ثالثًا، وواقع العقل العربي، هو انخرام هذه الصلات مع الأخلاق، وبيان هذا التَّوصيف؛ أنَّ الذَّات العربية المعاصرة لم تُطور فنون التهذيب الأخلاقي وضَعُفَ فيها الوازع الذّاتي ضَعفًا[1]، وباتت أميل إلى امتصاص معاني الوجود الجميل السائدة في الثقافة الغربية؛ أمَّا العلاقة مع الآخر، في ظل هذه التوحشية الصهيونية، فقد تمزقت من الناحية الفعلية، وباتت الحشود مكتفية بالحروب الافتراضية، وجزء كبير من الأنظمة مكتفية بالإدانات والملفوظات؛ من غير أثر حيّ في الواقع، ولا اقتدار على توجيه مسار الحرب التي تشن على الإنسان في غزّة من كل جهة، ولعل الشعور الأكثر إيلامًا في قلب الإنسان الغزَّاوي ليست الحرب التي يقوم بها الكيان الصهيوني ضده، فالاستشهاد والفوز بالرضا الإلهي كافية لتبرير معاناته، بل المؤلم أكثر، هو تمزق العلاقة مع الإنسان العربي أخلاقيًا واكتفاؤه بالتفرّج، والأكثر انفعاله بالرفاهية واللعب! من غير شعور بمعاناة إخوانه في الانتماء المشترك إلى القداسة!
وإذا كان الغرب هو أبعد النّاس عن التَّضامن الأخلاقي مع الإنسان الغزّاوي بسبب المتخيّلات التاريخية والإعلامية، فإنّه ظهر مجتمعيًا ومدنيًا أكثر تأثيرًا ونقدًا لسياسات إدارة الأزمة في بلاده؛ بينما كان يجب أن يكون الإنسان العربي هو الأكثر مسؤولية على جزء من تكوينه التاريخي والحضاري ومنظومته الدينية والرمزية. نحن أمام هزيمة أخلاقية فاقعة، مظهرها هو تمزُّق العلاقة مع الإنسان الغزّاوي، ومن المعلوم أنّ الأخلاق بقدر ما هي فردية، فإنها اجتماعية؛ وروحها إنّما هو تأليف القلوب، من أجل فكرة مشتركة ودور تاريخي مشترك.
ولأن الأخلاق بوصفها علاقة مع الآخر، قد تمزقت وضمر سلطانها على النفوس والعقول، فقد انتعشت الخِلافات الدَّاخلية بين الدول العربية، وانقسمت مواقفها، والأنكى هو؛ نشوء الصّدامات الثقافية الدَّاخلية، والانسياق في جِداليات التَّاريخ المنسي والهوية الحقيقية واللغة المظلومة والأصل النَّقي؛ من غير وعي بأن مراصد الصّراع الفكري؛ هي من يُغَذّي هذه النّقاشات ويقويها، كما لو أنَّ الانسياق فيها وحلّها هو الطريق الملكي نحو التقدم السَّريع؛ بينما فلسفة التاريخ وقوانين الحضارة الإنسانية تثبت أنّ الصّدامات الدَّاخلية في الثقافات وايقاظ الأطر السَّابقة على الدولة؛ هي علامات مرضية، وعوائق نحو الفعل الجماعي أو روح الفريق، الذي هو شرط إمكان أية انطلاقة نحو النّهوض والبناء؛ وبالتَّالي فإن الصِّدامات الثقافية الداخلية؛ ليست سوى متخيلات تاريخية؛ على حساب حاضر يتطلَّب أخلاقًا اجتماعية وتماسكًا داخليًا وتكاملًا ثقافيًا من أجل الفعل الأصيل والمثمر.
إذا كانت الهزيمة الأولى عقلية سببها هزيمة 67 فالثانية أخلاقية سببها ضمور الإحساس بالآخر في العقل العربي
أما انخرام المعنى الثَّالث للأخلاق، بما هي علاقة مع النَّوع البشري، فلم يقتدر الفعل العربي على صناعة صورة إنسانية تكون خادمة للإنسان الغزّاوي؛ ولِحَقِّه في الحرية وفي المقاومة؛ ما عدا تلك الصُّور التي تناقلتها وسائل الإعلام وأبصرها العالم، تعكس روح الصّبر وروح العلاقة الرفيعة مع الإيمان[2]، جسَّدتها نماذج بشرية رفيعة في أخلاقها من غزّة؛ استطاعت أن تؤثّر في الوعي والضَّمير العالمي، وتدفع الكثيرين إلى الثورة والمقاطعة لخطابات السياسين الدَّاعمين للكيان الصهيوني، وأن تفهم معاناة إنسان غزّة، الذي يراد له الانمحاء والموت.
لنقل إذن، في ظرفنا الراهن أنّنا ضمن مرحلة الهزيمة الأخلاقية للعقل العربي، فإذا كانت الأولى عقلية، سببها هزيمة العرب في 1967، فالثانية روحية وأخلاقية، سببها ضمور الإحساس الأخلاقي بالآخر في العقل العربي؛ وذلك على ثلاثة صُعد: صَعيد الذَّات المكتفية برغباتها، وصعيد الشُّعور بالآخر الذي انخرم وتمزق فعليًا، وصعيد النَّوع الإنساني الذي عجز العقل العربي أن يصنع صورة الحق الغزّاوي في الوجود.
وقبل أن نختم لا بد من طرح السؤال التالي: إذا كانت هزيمة 1967 أورثت اتجاهات نقد العقل العربي والإسلامي وضرورة التزوّد من المفاهيم العلمية الجديدة؛ فهل هزيمة 2023 الأخلاقية ستشهد نمو النقد الأخلاقي للعقل العربي وتشكل أنساق أخلاقية من أجل العلاج والتَّهذيب؟.
[1]يقول الأخلاقي المغاربي أبو مدين شعيب الإشبيلي في كتابه "أنس الوحيد ونزهة المريد": "من لم يجد في قلبه زاجرًا فهو خراب".
[2]مثال ذلك، الجد خالد نبهان مع حفيدته.
(خاص "عروبة 22")