خلف المشهد الإعلاميّ، يتوارى الوقف المسيحيّ الذي يُشكّل الدعامة الماديّة لوجود واستمرار المجتمع المسيحي في لبنان، بل يُشكّل لبنان، من خلال هذا النموذج الوقفيّ المسيحيّ، تجربةً رائدةً في العالم العربي لإدارة الأوقاف على أسُسٍ من التعدّدية والاستقلالية المجتمعيّة، ممّا يُعتبر حجر أساسٍ لنهضةٍ اجتماعيةٍ عربيةٍ مستقبليةٍ، وهذه تجربة لبنانية غنيّة ومُفيدة للدول العربية في سياقٍ إقليميّ تشهد فيه الأوقاف العربية، مسيحية وإسلامية، تحدّياتٍ متنوعةً داخليةً وخارجيةً تحول دون أن تقوم بأدوارِها التاريخيّة.
تُعَدُّ مؤسّسة الوقف، سواءٌ في السياق الإسلاميّ أو المسيحيّ، من أعرق المؤسّسات الاجتماعية في العالم العربي. فهي ليست مجرّد آليةٍ لإدارة الممتلكات أو توجيه العطاءات، بل كانت على مدى قرونٍ أحد أعمدة التماسك المجتمعي، وأداةً فعّالةً لتحقيق العدالة الاجتماعية، وتقديم الخدمات الأساسيّة خارج أطر الدولة المركزيّة. وبالنّظر إلى تحوّلات الحاضر وتحدّيات التنمية، يبرز السؤال حول مدى قدرة هذه الأوقاف على مواصلة أدوارها التاريخيّة، ومدى الحاجة إلى إصلاحٍ تشريعيّ وهيكليّ يُمكّنها من التفاعل مع الواقع الجديد، ولِمَ لا التعاون المشترك بين المؤسّسات الوقفية المسيحيّة والإسلاميّة لمواجهة التحدّيات المشتركة.
ساهمت الأوقاف في ترسيخ ثقافة العمل الأهلي والمبادرة الذاتية وعزّزت قدرات المجتمع المدني العربي
شكّلت الأوقاف رافعةً قويةً للتضامن الاجتماعي في الفترات التي غابت فيها الدولة المركزية أو تراجع ثقلها، بحيث كانت تؤمّن التمويل الذّاتي للمؤسّسات التربوية والصحية، وتوفّر الحماية الاجتماعية للفقراء والضعفاء، بغضّ النظر عن انتمائهم الديني أو الطائفي، ممّا عزّز منسوب التعايش داخل المجتمعات العربية. ومن خلال إدارتها المحلية، ساهمت الأوقاف في ترسيخ ثقافة العمل الأهليّ والمبادرة الذّاتية، ممّا جعلها أداةً للتمكين المجتمعي والتنمية التشاركية، وعزّزت قدرات المجتمع المدني العربي.
لقد لعب الوقف العربي، كموردٍ تراثيّ وعقاريّ، دورًا مِحوريًّا في بناء المنظومات التعليمية والصحية والدينية سواء لدى المجتمعات المسيحية أو الإسلامية. فقد كانت المدارس، والزوايا، والمستشفيات، ودور الأيتام، وحتّى منشآت البنية التحتية، مثل السقايات والخانات، تُموَّل وتُدار من ريع الأوقاف الإسلامية، ولعبت المجتمعات المسيحية من خلال الأبرشيّات والبطريركيّات والرهبانيّات الأدوار نفسها، إذ أنشأت الكنائس والمؤسّسات الرهبانيّة أوقافًا ضخمةً لتسيير الأديرة والمستشفيات والمدارس الخاصّة بها، ما عزّز قدرة هذه المجتمعات على الحفاظ على وجودها واستقلالها الروحي والاجتماعي.
على الرَّغم من هذا الإرث العريق، شهدت الأوقاف العربية، خلال القرن العشرين، تراجعًا كبيرًا في دورها نتيجة التدخل الاستعماري الذي قيَّد المؤسّسات الوقفية وصادر جزءًا منها. وبعد الاستقلال، شهدت بعض البلدان العربية عملية التأميم بالنسبة للجمهوريّات العربيّة، أو إلغاء الأوقاف الخاصّة كما هو الحال في تونس، ممّا ترتّب عنه سوء الإدارة وتفكيك بنيتها المؤسّسية. وفي حالاتٍ أخرى، ظلّت الأوقاف تُدار بأساليب تقليديةٍ، تفتقر إلى الشفافية والحَوْكمة الرّشيدة، أو تعرّضت لتعدّيات وتفريطٍ في الأصول.
قوانين الوقف في عدد من الدول العربية لا تزال تستبطن منطق السيطرة الحكوميّة
أمّا الأوقاف المسيحية تحديدًا، فعلى الرَّغم من احتفاظها باستقلاليةٍ نسبيةٍ في بعض البلدان، كما هو الحال في نموذجَي لبنان والأردن، فإنّها تواجه تحدّياتٍ مشابهةً، منها تقلّص عدد المستفيدين، وصعوبة استثمار العقارات التاريخية، وتقلّبات الأوضاع السياسية، خصوصًا في فلسطين.
إنّ قوانين الوقف في عددٍ من الدول العربية لا تزال تستبطن منطق السيطرة الحكوميّة أكثر من كونها آليات دعمٍ وتشجيع، وهو ما يحدّ من قدرة المؤسسات الوقفيّة، سواء المسيحيّة أو الإسلاميّة، على الابتكار أو التعاون بينها.
وبالنتيجة، أصبح الإصلاح التشريعي ضرورةً مُلحّةً من أجل استعادة الوظيفة المجتمعية للأوقاف، حيث تبدو الحاجة ماسّةً إلى تجديد البنية التشريعيّة التي تحكمها، بما يسمح بإنشاء مؤسّساتٍ وقفيةٍ خاصّةٍ جديدة، وتمكين المؤسّسات الوقفية القائمة من التصرّف في أصولها باستقلاليةٍ مسؤولةٍ، وإدخال أنظمة الحوْكمة الحديثة والرّقمنة، وتحفيز الاستثمار الوقفي في مشاريع تنمويةٍ مُستدامة.
مطلوبٌ أيضًا إعادة الاعتبار للأوقاف الخاصّة والأهلية كمُكَمّلٍ أساسيّ للأوقاف العامّة، إذ إنّ الأوقاف الخاصّة تُعتبر الدعامة الحقيقيّة للمجتمع المدني في عالمنا العربي، إلّا أنّ ضعف مؤسّسات الوقف في العالم العربي لا يرتبط بالإطار القانوني فحسب، بل يرتبط أحيانًا بعدم وجود إرادةٍ سياسيةٍ تُؤمن بأنّ المجتمع المدني شريكٌ في التنمية، لا مجرّد متلقٍّ لها.
في ظلّ ما يواجه العالم العربي من أزماتٍ اجتماعيةٍ واقتصاديةٍ متفاقمة - من تفكّك أسريّ وبطالة وفقر وهجرات ولجوء وأزمات مناخ ونزاعات داخلية - يبدو من الضروري التفكير في نماذج تعاونٍ بين الأوقاف الإسلاميّة والمسيحيّة، تقوم على إنشاء مجالس وقفيةٍ مشتركةٍ للبرمجة والتنسيق في العمل الاجتماعي، وتشجيع المشاريع الوقفيّة المشتركة في مجالاتٍ حيويةٍ من قبيل التعليم والرعاية الصحية والتماسك الأسريّ ومواجهة تأثير المناخ، وتبادل الخبرات بين المؤسّسات الوقفية، وتكوين كفاءاتٍ مهنيّةٍ مشتركة، والدفاع عن الحقوق القانونيّة للأوقاف في وجه التعدّيات أو السياسات المجحفة.
التحديث المتكامل يمكن أن يعيد إلى الأوقاف العربية مكانتها كمصدر أصيل للتنمية والتماسك المجتمعي
يمكن لهذا التعاون أن يتحوّل إلى رافعةٍ قويةٍ للتماسك المُجتمعي والتضامن بين المجتمعات المسيحيّة والإسلاميّة وباقي المجتمعات الدينيّة العربيّة، وأن يُعيد للأوقاف مكانتها كأداةٍ مدنيّةٍ وسلميّةٍ في خدمة التنمية والتماسك المُجتمعي والسلام في المنطقة.
لم تعد الأوقاف اليوم مجرّد بقايا من الماضي، بل هي مؤسّسات تحمل إمكاناتٍ استراتيجيةً هائلةً للمستقبل. وفي ظل ّالأزمات المتعدّدة التي تمرّ بها المجتمعات العربية، فإنّ الأوقاف الإسلامية والمسيحية وأوقاف المجتمعات الدينيّة الأخرى، مدعوّة لاستئناف دورها التاريخي، لكن بروحٍ معاصرةٍ، وضمن إطار قانونيّ يضمن الاستقلالية، والشفافية، والتعاون. وحده هذا التحديث المُتكامل يُمكن أن يُعيدَ إلى الأوقاف العربية مكانتها كمَصْدرٍ أصيلٍ للتنمية والتماسك المجتمعي والسلام للعالم العربي وللعالم أجمع.
(خاص "عروبة 22")