نواصل حديثنا عن رؤية "آصف بيات" للربيع العربي؛ ففي مقالنا الأول تحدثنا عن تحليله للسياق الاجتماعي العربي الذي مهد لانطلاقة "الحراكات" العربية. أما في هذا المقال فسوف نعرض ليوميات "حراكات" الربيع العربي في ذروتها وآثارها؛ في ضوء منهجية اختارها الباحث مبكرًا لمقاربة حركيتي كل من، أولًا: "الناس الفقراء في إيران"، وثانيًا: "الناس العاديون في مصر".
تقوم منهجية بيات على رصد "الأفعال الجماعية التي يقوم عموم الناس على المستوى القاعدي دون تنظيم جامع لهم. وكيف أنّ مجموع "تلك الأفعال الجماعية التي قام بها أناس غير متجمعين، كانت عنصرًا فاعلًا مهمًا في دفع التغيّر التراكمي في بلدان الشرق الأوسط". إنها الأفعال التي تعكس حراكًا ممتدًا أفقيًا - لا يجمعه تنظيم - وإنما يجمعه الغضب من الجور والظلم والفقر؛ أو ما يطلق عليه "اللاحركات الاجتماعية" التي تنجح مع تفاقم الاستبداد والاستعباد أن تفرض نفسها بأن: تؤسّس حضورًا معنويًا/تحفر وجودًا ماديًا فاعلًا ومؤثرًا وضاغطًا من أجل إحداث التغيير بدرجة أو أخرى.
إطلالة على زمن الربيع العربي وما بعده؛
في كتابه الصادر بالإنجليزية عام 2021: "حياة ثورية: يوميات الربيع العربي - (Revolutionary Life: The Everyday of the Arab Spring)"؛ والذي نشره باللغة العربية مركز دراسات الوحدة العربية في نوفمبر/تشرين الثاني 2023 ترجمة الأستاذ فكتور سحاب، يطرح بيات سؤالًا محوريًا حول الكيفية التي يجب أن تدوّن بها قصة الثورة؟ ففي رأيه، كما كتب في المقدمة: "الرواية المعهودة تركز على الدولة، السياسة العليا، السراي، والباشوات لتفحص النتائج وتقييم نجاح الحركات الثورية أو فشلها. ولا شك أن هذه الرؤية جوهرية لفهم الثورات"، عمومًا، وتلك التي شكّلت "الربيع العربي" خصوصًا. فلقد، -في رأي بيات-، "أنبأت الانتفاضات المدهشة التي تفشت في أنحاء الوطن العربي، ببروز جيل جديد في ثورات القرن الحادي والعشرين، وهي غنية، على الرغم من أنها حركات، فإنها فقيرة في كونها تغييرًا". نعم وصف "الربيع العربي"، في عديد الدراسات التي تناولته بالبحث والتقييم توالت على مدى العقد المنصرم، بأن حصاده الأخير كان "فشلًا كاملًا".
زادت القدرة على التعبئة والتمرّد الشعبي لكن ثمة القليل من الرؤى الاستراتيجية
وعن هذا التقييم يعلق بيات بقوله: "قد يصح هذا التقييم إذا اعتمدنا زاوية بنيوية شاملة، سياسية، مركزة على الدولة، للنظر إلى هذه التجارب التاريخية". ويستدرك "بيات" بقوله، الذي يعكس منهجه الذي دأب على اتباعه: "بيد أنّ الصورة تتعقد حين نحوّل عدستنا نحو مراقبة وتفحص ما حدث في المجال الاجتماعي، والحياة اليومية، وبين القواعد الشعبية".
ويفصّل "بيات" ما سبق في الفصل الأول من الكتاب المعنون "الحياة اليومية والثورة"؛ بأنّ الربيع العربي قد مثّل: "جيلًا جديدًا من ثورات القرن الواحد والعشرين تختلف عن ثورات القرن العشرين، مثل ثورات كوبا ونيكاراجوا، وإيران، أو حتى عن ثورات - ما يطلق عليه – المعادية للشيوعية في عام 1989".
يشرح بيات الاختلاف بينهما كما يلي: ثورات الربيع العربي "لم تكن ثورات من حيث التغيّرات الاجتماعية التي تبدأ بتحوّل سريع وجذري في الدولة، تدفعه الحركات الشعبية انطلاقًا من القاعدة. بل كانت ثورات أي حركات ثورية نبأت من أجل دفع الدول القائمة إلى إصلاح ذاتها. والثورات بهذا المعنى، قلما تُحدث تحوّلًا أساسيًا. ذلك أنّ الدول، حين يُترك الأمر لها، لا تبادر إلى تغيير ذي مغزى إلا حين تتلقى ضغطًا سياسيًا فعليًا أو إكراهًا على ذلك. والحقيقة أنّ الدول العربية ما بعد الانتفاضات قاومت عمومًا، إصلاح ملاكاتها وثقافتها وعلاقتها؛ وهي بذلك احتفظت بالوضع القائم كما هو". في المقابل فإنّ "الثورات العقائدية الجذرية" تسير مسارًا مختلفًا، إذ تتم تحوّلات جذرية ما يمهد الطريق نحو تأسيس جديد: اقتصادي، وسياسي، وأيديولوجي.
يعمق بيات تفسيره بالإجابة عن سبب/أسباب الاختلاف بين ثورات الألفية المنصرمة والألفية الراهنة بطرح مفاده بأنّ الأخيرة قد "وقعت في عصر تناقض، بعد انقضاء الحرب الباردة. لقد أثارت السياسة النيوليبرالية نقمة استثنائية، وفي الوقت نفسه، سهّل بروز تكنولوجيا التواصل الحديثة كثيرًا مهمة التعبئة السياسية على نطاق شعبي واسع، غير أنّ فكرة الثورة ذاتها التي تعني التغيير العميق، تلاشت. بعبارة أخرى، زادت القدرة على التعبئة والتمرّد الشعبي زيادة مذهلة، لكن كان ثمة القليل من الرؤى الاستراتيجية، ناهيك بالطوباوية المثالية، في شأن أسلوب تغيير الوضع القائم، وما هو النظام الاجتماعي الجديد المنشود تحقيقه".
ويخلص بيات إلى أنّ ما جرى في الربيع العربي من ديناميات حركية، إذا جاز لي أن استخدم هذا المصطلح أو تعبير "حراكات" -وقد استخدمنا الأخير مبكرًا في مقال لنا بالشروق في 31 يناير 2011 عنوانه: الموجة الأولى من الحراك الشبابي- لا بد من رؤيته بزاوية رؤية أوسع من حصره في "تبديل الدولة والعقيدة السياسية ونمط الحكم كعناصر أساسية في المُخرَج الثوري". ويقصد بيات رؤيته من منظور اجتماعي أي على "مستوى القاعدة الشعبية والعيش اليومي". ورصد "التحول في ذاتيات الناس وتوقعاتهم وعلاقاتهم التراتبية، إضافة إلى الممارسات البديلة في المزارع والمعامل والأحياء والمدارس والشوارع وميادين الحياة الخاصة". أو بحسب مقولة الفيلسوف الفرنسي آلان باديو (87 عامًا) "الانسلاخ عن العيش الرتيب، وهو انسلاخ قد يُفضي إلى احتمالات لا حد لها، حيث يمكن للناس أن يحلموا بنظام مختلف للأمور"؛ يقومون باختراعه على طريقتهم.
لذا فقصة الثورة، يجيب بيات على سؤاله التمهيدي، بأنها "ليست مجرد ما حدث على القمة؛ إنها أيضا يوميات ما ينجم في الشرائح الدنيا من المجتمع في الحياة اليومية، بين الفئات الشعبية، وفي الأفكار والممارسات وفي المعاني والقواعد التي تؤلف معًا ما يمكن تسميته عالم العيش اليومي". إنها دراسة القاعدة وما اعتراها من تحوّلات كذلك وجهات نظر أصحاب المصلحة الحقيقية حيال ما جرى من دينامية إذ يتيح، في نظر "بيات" أن "نرى ما تعنيه الثورة لهذا أو ذاك من الناس، وكيف يمكن لصورة الثورة أن تكون مختلفة جذريًا، في أنظار الأفراد العاديين، الفقراء والشبان المهمشين والنساء، عن صورتها لدى الطبقة السياسية". والأهم، بالتالي، مدى إخفاق أو نجاح الثورة، وما آل إليه واقع الناس، كذلك مدى إدراكهم لمعنى الثورة والحاجة إليها.
زرع ما جرى "دينامية ذاتية مستدامة" ستكون قادرة على إحداث تغيير جذري
وفي ضوء ما سبق، ينطلق "بيات" في تقديم أطروحته البحثية عن واقع زمن الربيع العربي وآثاره - في مصر وتونس بالأساس - في ضوء حركية "عموم الناس" ممن ينتمون إلى المستوى الاجتماعي/الطبقي/الفئوي القاعدي - أو المجتمعات السُفلى - كما يلي: الفئات الدنيا، والفقراء في الحضر والريف، وفقراء الطبقة الوسطى/العامة، والأمهات/البنات والسياسات الجندرية السلطوية، والأطفال، والشباب، والأقليات الاجتماعية.. إلخ؛ الحركية المقاومة قبل الربيع العربي للنظم الاستبدادية والرقابية وللوضع الاقتصادي المضاد لمصالح مواطني المجتمعات السفلية، والاحتجاجية إبانها، وما ترتب عليها لاحقًا.
وبعد أن يفصل "بيات" طبيعة ونوعية الحركية الثورية للفئات القاعدية المتنوعة، يؤكد على أطروحته بأنّ: "قصة الثورة إذًا ليست مجرد تغيير للنظام، مهما كان ذلك التغيير ذا مغزى. إنها أيضًا ما حدث في الجانب السفلي، بين الشرائح الشعبية، في الحياة اليومية"،.. فبالرغم من الفشل في تغيير هيكل السلطة تغييرًا كبيرًا في قمة المجتمع، "فإنّ الكثير حدث في القاع، في المجال الاجتماعي. عاش المواطنون العاديون حياة ثورية"، عكست الرغبة الجماهيرية القاعدية التواقة للتغيير. لذا يقول بيات إنّ "ما حدث لم يكن تافهًا".
وبعد، يدفعنا "آصف بيات" من خلال أطروحته أن نتحرّر من القراءة الكلاسيكية لهكذا ثورات لأنها غير كافية لإدراك ما جدّ على الجسم الاجتماعي القاعدي على وجه الخصوص من تحوّلات، واحتمالية تجدد الدينامية الثورية، ولما لا وقد زرع ما جرى "دينامية ذاتية مستدامة" ستكون قادرة - ولا شك - على إحداث تغيير جذري/شامل في البُنى والهياكل يومًا.
لقراءة الجزء الأول
(خاص "عروبة 22")