بالنسبة إلى الغيورين على إعادة الاعتبار لمنظومة القوانين والقرارات الدولية العاطفة على حقوق الشعب الفلسطيني، كان استدعاء إسرائيل للمثول أمام محكمة العدل في لاهاي، متهمة بارتكاب الإبادة الجماعية بحق الفلسطينيين، خطوة تدعو إلى الغبطة والاستبشار.
نحسب أن هذه النشوة انبعثت عن قناعة أساسية وتوقيت شديد الحساسية. مؤدى القناعة أن المحكمة على قمة الهرم القضائي العالمي، جهة ذات طابع حقوقي صرف مستقلة ومنزهة عن جملة الأهواء، التي طالما عصفت بالأبعاد القانونية للقضية الفلسطينية، وأخضعتها عنوة وجبراً للمزايدات والمناقصات الإقليمية والدولية، المنطلقة من جوانب مصلحية ذاتية ظاهرة وباطنة.. وهذا يؤهلها وجوباً وتلقائياً لإنصاف القضية وإعادة تعويمها حقوقياً بحيثية مرضية.
وأما التوقيت فيتعلق بمزامنة مبادرة انعقاد المحكمة لأكثر جولات الغلو الإسرائيلي في اقتراف أعمال مروعة ضد الفلسطينيين في غزة.. أعمال تقع في صميم ما يوصف بجرائم الإبادة الجماعية. ومن شأن هذه المبادرة أن تفضي حتماً وكحد أدنى برأي الكثيرين، إلى قرار آمر بوقف هذه الأعمال، وبالتالي انتشال الفلسطينيين من دولاب المقتلة المتفاعلة، وهو إجراء احترازي تملك المحكمة اتخاذه بشكل عاجل، حتى من قبل البت في أحكامها النهائية.
كانت جرجرة إسرائيل للمثول أمام أعلى منصات القضاء الدولي، على يد المدعي الأفريقي، مسألة فارقة بالنسبة لدولة لطالما وصفت بالمروق والعصيان. وكان ظن المنتشين بهذا المشهد، ولعله ما زال، أن هذا المثول يضع إسرائيل تحت طائلة العدالة الدولية بشكل مباشر، ويقي القضية الفلسطينية من توابع العسف بها، المتأتي بالذات من الانحياز الغربي ضدها في المحافل الدولية الأخرى، الموسومة بقابلية الخضوع للضغوط الفاعلة من خارج الصندوق الحقوقي البحت. وكان استخدام سيف الفيتو الأمريكي في مجلس الأمن لغير مرة أثناء الحرب المسعورة على غزة، آخر تجليات هذه التوابع.
حين عقدت الجلسة الخاصة بالنظر في الطلبات العاجلة للمدعي الجنوب أفريقي بالحق الدولي، كان الشعور السائد لدينا أن المحكمة، بعد إعلان قبولها للدعوى شكلاً وموضوعاً، ستأمر فوراً وأولاً بوقف إطلاق النار في غزة. كان هذا التوقع منطقياً وطبيعياً باعتبار أن تعليق الأعمال القتالية، هو الذي يهييء المجال لتطبيق بقية الإجراءات الاحترازية المتوخاة، غير أن القاضي الدولي مضى في مطالبة إسرائيل باتخاذ بضعة تدابير، خلت بالكامل من صيغة «الأمر» الذي تحرقنا لصدوره.
كان صمت المحكمة على هذا النحو مدعاة للاستهجان، فهي طالبت إسرائيل، المدعى عليها، بإنجاز تدابير من قبيل توفير الخدمات الأساسية والاحتياجات الإنسانية للفلسطينيين، ومنع الأفعال المنافية للالتزام باتفاقية منع الإبادة، بما فيها القتل والتسبب في ضرر مادي بالظروف المؤثرة على الحياة والدمار المادي، ومعاقبة التحريض على ارتكاب أعمال الإبادة في غزة، ومنع تدمير الأدلة المرتبطة بهذه الأعمال.
حسناً، هذه تدابير كانت وما تزال مطلوبة ومقدرة، ولكن كيف تصورت المحكمة أنه يمكن للمدعى عليه مقاربة هذه التدابير بالجدية اللازمة، تحت لهيب نيرانه المصبوبة في الميدان من البر والبحر والجو ؟!.. و أي شيء أحق بالعناية والاهتمام من الأمر الاحترازي بإسكات المدافع، كشرط شارط لمرور سلسلة الإجراءات الأخرى ؟!.
ومما زاد طين الاستفزاز والحيرة بلة، أن المحكمة منحت المدعى عليه شهراً للتأكد من إتيان التدابير المطلوبة منه، بل وأوكلت إليه رفع تقرير إليها بهذا الشأن.. ولنا أن نلحظ هنا، من ناحية، كيف أن هذه المدة بدت طويلة أكثر بكثير من اللازم، وأن نتساءل، من ناحية أخرى، عن دواعي عدم تكليف لجنة محايدة بإعداد التقرير المطلوب.
حين انتهت مهلة الشهر إياه، كانت الملاحقات العسكرية الإسرائيلية العشوائية اللامقطوعة واللاممنوعة، قد أوقعت ما يربو على العشرة آلاف من أبناء غزة بين قتيل وجريح، وألقت بمئات الآلاف في مهاوي التشرد والجوع والأوبئة.. ولا ندري ما إن كان بوسع المحكمة، عطفاً على هذا المشهد المرير الذي يغني فيه الحال عن السؤال، أن تستدرك وتنظر في إصدار أمر بوقف أعمال القتال. لكنها حتى اللحظة لم تفعل، بل وأودعت التقرير الإسرائيلي الذي تلقته بالفعل قيد السرية !.. هذا يستدعي السؤال عن هذه السرية الاستثنائية، بين يدي دعوى قضائية تمت كل أطوارها على الملأ، وتخص جوانب من قضية كبيرة، تدور رحاها وتوابعها المريرة منذ عقود، أيضاً على الملأ؟.
يقيننا رغم ذلك كله ونحوه أن المحكمة أدرى بشؤونها.. ونطمع في الوقت ذاته بأن لا يؤخذ التفكر في بعض أحوالها على محمل محاولة إفساد الود معها.
("البيان") الإماراتية