أعلنت الهيئة العليا المستقلة للانتخابات في تونس في مؤتمر صحفي مؤخرًا أنّ إجراء الانتخابات الرئاسية سيكون إما في شهر سبتمبر/أيلول أو أكتوبر/تشرين الأول المقبل، وأن الهيئة ستصادق على رزنامة الانتخابات وستبدأ الاستعداد لهذا الحدث الانتخابي بعد إرساء المجلس الوطني للجهات والأقاليم.
وتتزامن الانتخابات الرئاسية المقبلة مع سياق سياسي مختلف عن المحطات الانتخابية السابقة التي تلت 2011، إذ دخلت تونس مسارًا سياسيًا جديدًا منذ الـ25 من يوليو/تموز 2021، اعتمد نظامًا انتخابيًا جديدًا يقوم على الأفراد بدل القائمات، وبرلمان ودستور جديدين، مقابل تراجع دور الأحزاب السياسية وتوسع صلاحيات رئيس الجمهورية في دستور 2022 مقارنة بدستور 2014، وتراجع سلطة البرلمان الذي كان سابقًا السلطة الأولى.
والانتخابات الرئاسية المنتظرة هي ثالث محطة انتخابية منذ إجراءات الخامس والعشرين من يوليو/تموز 2021، بعد الاستفتاء الشعبي الذي أفرز دستورًا جديدًا للبلاد والانتخابات التشريعية التي انتهت بانتخاب برلمان جديد حل محل مجلس النواب السابق وانتخابات المجالس المحلية. وقاطعت أغلبية أحزاب المعارضة الرئيسية على غرار حركة النهضة الإسلامية والدستوري الحر هذه الاستحقاقات ورفضت المشاركة في أي منها، معتبرةً أنّ سعيد ينفذ انقلابًا على الديمقراطية ويؤسس لنظام دكتاتوري، وأنّ بمشاركتها ستمنحه الشرعية والاعتراف لا سيما بعد الزج ببعض قياداتها في السجن بتهمة التآمر على أمن الدولة وهي تُهم في نظر المعارضة كيدية وتهدف لفسح المجال أمام سعيد وإفراغ المشهد السياسي من المنافسة. ولهذا اكتفت بالمتابعة والنقد والاحتجاج في الشارع من الحين إلى الآخر للمطالبة بتغيير النظام القائم.
لكن ومع الإعلان عن تنظيم الانتخابات الرئاسية في موعدها بدأ الخطاب يتغيّر حيث سارعت بعض الوجوه السياسية إلى إبداء عزمها الترشح للانتخابات الرئاسية. كما بدأت بعض الائتلافات على غرار جبهة الخلاص الوطني، التي تضم أساسًا حركة النهضة وبعض الأحزاب الصغيرة وبعض السياسيين المستقلين (تشكلت للتصدي لمشروع قيس سعيد)، تروج لانفتاحها على ترشيح شخصية لخوض غمار هذا الإستحقاق، بينما ما زالت بعض الأحزاب لم تعلن عن مرشحها وأخرى اختارت مساندة رئيس الجمهورية المتوقع ترشحه.
وفي خضم هذه التطورات، من المنتظر أن تشهد الأسابيع المقبلة احتدام الصراع السياسي بين السلطة والمعارضة خاصة في ظل عزم هيئة الانتخابات تعديل شروط الترشح التي تمس خاصة مسألة الجنسية (منع حاملي الجنسية المزدوة من الترشح) والسن والتمتع بكافة الحقوق المدنية والسياسية.
المعارضة.. واستمرار الانقسام
لم تنجح المعارضة التونسية في التوحّد في أي مرحلة منذ سنة 2011، وحتى عندما قام الرئيس قيس سعيد بإجراءاته الاستثنائية التي أدت لتحجيم دورهم وتأثيرهم استمر الانقسام والتشتت الذي تغذيه خاصة الاختلافات الفكرية وتضارب تطلعات كل حزب. ومنذ بدء الحديث عن تنظيم الانتخابات الرئاسية في السنة الماضية بدأت الدعوات تتالى للم شمل المعارضة والاتفاق حول مرشح واحد قادر على منافسة قيس سعيد، ولكن يبدو أن هذا الأمر لن يحدث في ظل تعدد الترشيحات حتى الآن.
جبهة الخلاص طرف المعارضة الأبرز لقيس سعيد باعتبار حركة النهضة أبرز مكوناتها، لم تعلن حتى الآن عن مرشحها ولكنها أعلنت أنها ستعمل على الاتفاق حول اسم يمثلها. وتذهب التوقعات لاسمين اثنين الأول نجيب الشابي الذي يتزعم جبهة الخلاص والذي تحالف مع حركة النهضة أساسًا من أجل ترشيحه لمنصب رئاسة الجمهورية الذي ظل يتطلع إليه منذ سنوات. والثاني القيادي الذي انشق على حركة النهضة عبد اللطيف المكي والذي لا يخفي أيضًا طموحه لهذا المنصب. ويبدو أنّ كفة المكي سترجح في الأخير لعدة اعتبارات أولها أن الشابي ليس من الوجوه التي تحظى بقبول شعبي في تونس بل إنها حتى غير موجودة في نتائج سبر، وثانيًا لأن التجارب أثبتت أن حركة النهضة لم تختر يومًا الشابي. ثالثًا لأنّ عبد اللطيف المكي حتى وإن انشق عن الحزب الإسلامي إلا انه لم ينسلخ عنه ولم يخرج من دائرة أفكاره وبالتالي من غير المرجح أن تذهب حركة النهضة لدعم شخصية سياسية أخرى على حساب أحد أبنائها لا سيما وأنّ حظوظه أوفر من الشابي.
في المقابل فضّلت أحزاب أخرى ترشيح قياداتها الموجودة في السجن، فالحزب الدستوري الحر ماضٍ في ترشيحه لرئيسته عبير موسي الموقوفة في السجن منذ الثالث من أكتوبر/تشرين الاول الماضي. ويقول كريم كريفة عضو الديوان السياسي للحزب إنّ "عبير موسي ماضية في تقديم ترشحها للانتخابات الرئاسية وقد عبرت عن نيتها في الترشح والحزب لن يساند أي مرشح باستثنائها".
فيما قرر الحزب الجمهوري ترشيح أمينه العام عصام الشابي الموقوف في قضية التآمر على أمن الدولة للانتخابات الرئاسية حسب الناطق الرسمي باسم الحزب الجمهوري الذي أكد أنّ ترشيحه متفق عليه داخل الحزب ولكن يبقى الأمر في انتظار موافقة الشابي على القرار بعد أن تمت مراسلته عبر أحد محامييه لمطالبته بالترشح للانتخابات.
هناك أيضًا السياسي الذي شغل عدة مناصب هامة في فترة حكم الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي المنذر الزنايدي، الذي ألمح في بيان منذ أيام إلى أنه سيترشح للانتخابات الرئاسية. وهو مرشح له حظوظه الوافرة بعد قيس سعيد، نظرًا لتجاربه الهامة سابقًا ومعرفته الكبيرة بدواليب الدولة ما يجعله قادرًا على تقديم برنامج انتخابي قد يستقطب خاصة المحسوبين على منظومة بن علي التي ترى أنها همشت وفقدت حظوظها وامتيازاتها بعد الثورة. لكن تبقى هذه الحظوظ غير مؤكدة من جهة بسبب الشكوك بأنه مرشح رجال المال والأعمال وهي كفيلة بنفور الناس منه، ومن جهة ثانية، في حال تأكيد ترشح عبير موسي فإنّ جمهور النظام القديم سينقسم بينهما بل إن الكفة سترجح لموسي وبالتالي سيكون ترشحه بلا أفق.
وبهذا تكون أحزاب المعارضة ماضية في خيار الانقسام الذي يصب في مصلحة الرئيس قيس سعيد حصرًا.
يقول الناشط والمحلل السياسي محمد ذويب: "من المتوقع أن تشهد الانتخابات الرئاسية إقبالًا أكبر من التشريعية والمجالس المحلية وبالتالي ستكون حدثًا انتخابيًا مهمًا. ولهذا فإن المعارضة ستكون شريكًا في هذا الحدث ولكن من المستحيل أن تتوحّد، فجبهة الخلاص وحسب كلام العجمي الوريمي وعبد اللطيف المكي سيكون لها مرشح. عبير موسي اذا غادرت السجن ستترشح. الجبهة الديمقراطية قد تدعم عياشي الهمامي، هذا إضافة إلى بعض المترشحين المستقلين ومن المتوقع أن يرتفع العدد أكثر. كل هذه الترشحات المتعددة تضعف المعارضة وتعطي فرصة أكبر لقيس سعيد للفوز مجددًا بالانتخابات".
أما الصحافي والمحلل السياسي المختص في الشأن التونسي محمد الهادي حيدري، فيرى أنّ المعارضة التونسية اليوم تعيش وضعًا صعبًا لعدة اعتبارات. موضحا لـ"عروبة 22" أن "قرار المعارضة المشاركة في الانتخابات في حد ذاته يشكل إحراجًا لها لأنه سبق وأن أعلنت أن المشاركة في أي استحقاق يشرف عليه سعيد هو بمثابة الاعتراف بمساره ومشروعه، وبالتالي فهي بمشاركتها ستعترف بمسار سعيد مكرهة. كما أنّ الإصرار على أن يقدم كل حزب مرشحه ورفض التوافق حول اسم بلا ماضٍ سياسي خاصة خلال العشرية التي تلت الثورة لن يفيدها في شيء، بل يعني أنّ الهزيمة مؤكدة. لأنّ التمسك بوضع وجوه سئمها الشعب التونسي في الصدارة وتصديرها كمرشحين للرئاسة سيعزز حظوظ قيس سعيد لا أكثر".
قيس سعيد.. الأوراق السياسية والتحديات
تنتهي ولاية الرئيس التونسي قيس سعيد في العام الجاري، إذ فاز بفترة رئاسية مدتها خمس سنوات عبر دورة ثانية من الانتخابات في 13 أكتوبر/تشرين الأول 2019، أمام مرشح حزب "قلب تونس" نبيل القروي، وتنتهي ولايته الرئاسية في أكتوبر/ تشرين الأول 2024.
ورغم أنّ سعيد لم يعلن حتى الآن عزمه الترشح ولكن كل المؤشرات تؤكد أنه سيكون المتنافس الأبرز في هذا الحدث الانتخابي لا سيما أنه يمتلك حظوظًا أوفر من غيره للنجاح، لعدة اعتبارات أهمها وجوده في السلطة واستئثاره بكل السلطات كما تقول أحزاب المعارضة، فضلًا عن تجوله الدائم بين الناس وحرصه أن يكون حاضرًا بينهم وتمرير خطابات تستهدف تفاصيل حياتهم رغم أنه على مستوى الفعل هناك الكثير من المشاكل التي لم ينجح سعيد حتى الآن في تلافيها. إضافة إلى استمرار اختزان الناس فكرة أنّ سعيد من خارج عائلة السياسيين الذين تسببوا في شقاء التونسيين منذ 2011 ولم تتعلق به حتى الآن ولا بالوزراء الذين اختارهم أي شبهات أو إشاعات فساد.
ويقول الناشط والمحلل السياسي محمد ذويب: "كل المؤشرات ولا سيما انقسام المعارضة ترجح أن حظوظ سعيد في الفوز وافرة ولكن بنسبة أقل بكثير مقارنة بأرقام 2019. مع العلم أنّ لسعيد أيضًا عدة أوراق سياسية بإمكانه اعتمادها مع قرب الانتخابات وخاصة ورقة الأموال المصادرة والصلح الجزائي والزيارات المباشرة لعدة مناطق من البلاد وخاصة منها المنسية".
ولكن في المقابل سيكون أيضًا أمامه جملة من التحديات التي لن يكون من اليسير عليه تلافيها، فهو من جهة مطالب بإيجاد حلول لأزمة نقص المواد الأساسية وضمان توفيرها وتوزيعها بنسق عادي في كامل محافظات البلاد، وتلافي ارتفاع الأسعار الذي ضرب المقدرة الشرائية للطبقة الوسطى والفقيرة، هذا فضلًا عن التحدي الأكبر والمتمثل في أزمة البطالة الإشكال الأكبر الذي يمس خاصة الشباب لا سيما من حاملي الشهادات الجامعية.
من جهة أخرى، ستكون الأشهر المتبقية فرصة لعموم التونسيين لاختبار مدى جدوى فكرة الشركات الأهلية، وهي مشروع سعيد الذي أصرّ على تنفيذه على رفض المعارضة الواسع، وعما إذا كانت ستلبي فعلًا تطلعات الشباب باعتبارها الفئة المستهدفة أساسًا من هذا المشروع. وبالتالي فإنّ الأشهر المتبقية ستكون أيضًا بمثابة الامتحان لسعيد الذي إما سيعيده للرئاسة بالزخم ذاته الذي كان في 2019 أو بصيغة جديدة ودعم شعبي محدود.
(خاص "عروبة 22")