وفق هذه الرؤية يتشكل أعداء الغرب من خمس امبراطوريات شرقية تستفيق حاليًا من واقع الهزيمة التي سمحت لأوروبا بالصعود منذ نهاية القرن الخامس عشر، وهي الإمبراطوريات القيصرية والعثمانية والفارسية والكينغية والمونغولية، التي تمثلها اليوم روسيا وتركيا وإيران والصين والهند.
الإمبراطوريات تعود إلى موروثها الديني الأصلي لإعادة بناء هوياتها والانسياق في مشاريع هيمنة
حسب كلوزيمو حاولت هذه الإمبراطوريات منذ القرن الثامن عشر القيام بإصلاحات تحديثية تمحورت حول تطوير النظم الإدارية والعسكرية، لكنها قادت إلى الفوضى ثم إلى الحروب الأهلية والثورات الشعبية الراديكالية في ثوب قومي كما هو الشأن في تركيا وإيران والهند أو في ثوب شيوعي كما كان الحال في روسيا والصين.
وبعد فشل هذه الثورات القومية العلمانية بل المناهضة للدين أحيانًا، ها هي هذه الإمبراطوريات تعود إلى موروثها الديني الأصلي لإعادة بناء هوياتها والانسياق في مشاريع هيمنة مناوئة للغرب. ها هو بوتين يعيد الاعتبار للكنائس الأرثوذكسية، وإردوغان يحوّل كنيسة آيا صوفيا إلى مسجد، وخامنئي يتبنى التشيّع الراديكالي ومودي يفرض الهندوسية ديانة للدولة. ومع أنّ كلوزيمو لا يرى أن هذه الإمبراطوريات الخمس يمكن أن تتحوّل إلى محور استراتيجي متجانس في مقابل الغرب، إلا أنه يعتقد أنها تمثل اليوم التحدي العالمي الأول أمام استقرار العالم وأمنه.
لم نفتأ في السنوات الأخيرة نقرأ على نطاق واسع هذه النغمة في صيغ متعددة، بدأت بنظرية صدام الحضارات الشهيرة التي بلورها المفكر السياسي الأمريكي صمويل هانتغتون قبل ثلاثين سنة. من هذه الصيغ التي انتشرت في الأدبيات السيارة: أطروحة صدام الشمال والجنوب الشامل (الذي يختزل أحيانًا في مجموعة البريكس ويوسّع نطاقه أحيانًا أخرى ليشمل الكتلة الأفروــآسيوية بمعناها القديم)، وأطروحة صراع الديمقراطيات الليبرالية والأنظمة الاستبدادية التسلطية (التي يدافع عنها الفيلسوف الفرنسي المثير للجدل برنار هنري ليفي).
الواقع أنّ تشخيص كلوزيمو يتميّز بالسطحية والتبسيط الشديد، باعتبار أنه يمارس نوعين من الاختزال الخطير والزائف: الجمع بين تجارب ونماذج لا شيء يربط بينها من حيث السياقات والتوجهات والمواقف، والاتكاء على معطيات تاريخية بعيدة في النظر إلى أنظمة سياسية يعتبرها المؤلف امبراطوريات متجددة.
بخصوص العنصر الأول، تتعين الإشارة إلى أنّ التصنيف الذي يعتمد كلوزيمو للأنظمة الخمسة من حيث علاقاتها مع الغرب لا يستقيم من عدة أوجه. ففضلًا عن كون روسيا تنتمي جغرافيًا وثقافيًا وتاريخيًا إلى أوروبا مهما كانت طبيعة نظامها السياسي، فإنّ تركيا تشكل جزءًا سياسيا من المنظومة الأمنية والاستراتيجية الغربية من خلال عضويتها في حلف الناتو، كما أنّ الهند رغم كل مشاكلها الداخلية تعتمد النظام الديمقراطي الليبرالي على الطريقة الغربية. ولا يبدو من المبرر إقصاء دول وازنة من أمريكا اللاتينية وأفريقيا (في مقدمتها البرازيل وجنوب أفريقيا) من الكتلة الجيوسياسية المناوئة للغرب، وهي بلدان لا تدخل في معايير التصنيف التي وضعها كلوزيمو.
ظاهرة التشدد الراديكالي والشعبويات التسلطية صاعدة في العالم كله
أما العنصر الثاني، فيبرز في وهم الاستمرارية التاريخية بين امبراطوريات كانت تحكم شعوبًا ومساحات جغرافية هائلة (كما هو شأن الإمبراطورية العثمانية أو الإمبراطورية المغولية الهندية) ودول قومية حديثة، من الطبيعي أن تستند إلى موروثها القومي والحضاري في إعادة بناء هوياتها الوطنية الراهنة.
خلاصة الأمر، أنّ ظاهرة التشدد الراديكالي والشعبويات التسلطية صاعدة، ليس في الشرق وحده بل في العالم كله (بما فيه الغرب الليبرالي ذاته)، إلا أنّ مقاربة كلوزيمو لا تفيد في فهم واستكناه أزمات الغرب الحالية.
(خاص "عروبة 22")