بصمات

المسلمون في الجمهورية الفرنسيّة

أمران اثنان يثيران الانتباه في الحديث عن الحضور الإسلامي في فرنسا: أولهما أنّ الإسلام يمثّل الديانة الثانية في فرنسا، وثانيهما أنّ المسلمين يشكلون سواد ساكنة ضواحي المدن الكبرى في فرنسا. وهذه الضواحي، وقد عرفت تناميًا عمرانيًا هائلًا مضطردًا منذ ستينيات القرن الماضي، تحتضن الأحياء السكانية الموسومة من قبل علماء الاجتماع بالأحياء الهامشيّة، والموصوفة من قبل الحكومات الفرنسية التي تعاقبت على السلطة في العقود الستة الماضية بالأحياء "الصعبة". وفي هدا النعت اعتراف بحال عسير إحدى العلامات التي تدلّ عليه أنّ السلطات الأمنية الفرنسية لا تتردد في إلحاق نعت "الساخنة" بالأحياء التي تحتضنها تلك الضواحي.

المسلمون في الجمهورية الفرنسيّة

وليس يخفى ما لهذا النعت الأخير من دلالات قوية فهي تحيل على العنف وعدم الاستقرار من جانب أول، وهي من جانب ثانٍ، تنضح بحمولة قدحية، ضمنية على الأقل، تفيد أنّ الأمر في تلك الأحياء يتعلق بساكنة مغايرة للقاطنين في غيرها من أحياء المدينة الأصلية. وعند علماء الاجتماع، وكذا عند زملائهم علماء الديموغرافية، فإنّ هذه الأحياء تثير جملة قضايا نوعية تكاد تختص بها.

الفقر والهشاشة يضاعفان من حدة المعاناة ويمدانها بطاقة نفسية متوترة ومتجددة باستمرار

وبالجملة فهي قضايا تتصل بالفقر والهشاشة التي تنخر المجتمع الفرنسي في جانب منها وهي، في جانب آخر، تثير المشكلات العديدة التي تتصل بصعوبات الاندماج في النسيج الاجتماعي والسياسي الفرنسي من قبل المواطنين الفرنسيين ذوي الأصول المغاربية خاصة. والشأن عند هؤلاء الأخيرين أنهم يدينون بالإسلام في بلد لا يسأل الناس فيه عن عقيدتهم، فالأمر يتعلق بـ"المجال الخاص" ولا يتصل بالمجال "العام المشترك". هذا من حيث المبدأ والنظر ولكن واقع الوجود الاجتماعي في تلك الأحياء هو، على العموم، غير ذلك. لنقل إنّ بنية تلك الأحياء تجعل الأمر مخالفًا لذلك فهي تنقله من "الخاص" إلى "العام" - إن لم يكن ذلك بكيفية رسمية علنية فإنّ واقع الحال ينطق بغير ذلك.

لا مندوحة من الاعتراف بأنّ الإسلام يمثّل بالنسبة للأجيال الثلاثة التي انحدرت من أصلابهم الوعاء الذي تفرغ فيه أنواتهم العميقة وهوياتهم الباطنة ومن ثم الجدر والأساس في صياغة الوعي الثقافي المشترك عند مسلمي فرنسا.

ولا مندوحة أيضًا من التسليم بأنّ صفة المواطن الفرنسي تظل، في واقع الحال محض تعلة صفة إدارية-قانونية، بيد أنها لا تطول العمق ولا تتصل بالجذور. وغني عن القول إن الفقر والهشاشة يضاعفان من حدة هذه المعاناة ويمدانها بطاقة نفسية متوترة ومتجددة باستمرار.

نظر الحكومات الفرنسية للفرنسيين المسلمين كاد يكون مقتصرًا على اللباس وعلى المظاهر الخارجية

فسواء نظرنا إلى هذا الواقع (العسير سيكولوجيًا والظاهر اجتماعيًا وسلوكيًا) من جهة المنشغلين بالدراسات الاجتماعية التي تتناول بالفحص قضايا المجتمع الفرنسي المعاصر وتطوّره، أو اعتبرناه من جهة التدبير الإداري المحض (والأمني خاصة) فإننا نصادف القلق نفسه تجاه وعي انشطار الذي يبدو أنه يتهدد البنية الفرنسية في وجودها. حضور الإسلام في فرنسا، وعلى نحو أخص، "إسلام فرنسا" (وفي حديث سابق عرضنا للفروق المعرفية والنفسية بين المفهومين أو التصورين) يجعل الباحث أمام مادة ثرية لتمثّل "الجمهورية" في الوعي الجماعي الفرنسي العام مثلما، دفعة واحدة، الأسئلة العسيرة التي تتعلق بالمواطنة والتدبير في "الجمهورية" من حيث أنها فضاء للعيش المشترك ووعاء تذوب فيه فوارق الإثنيات والمعتقدات وكل الفروق التي تتصل باللون أو الجنس أو الأصل البعيد. والحق أن الحفاظ على الفضاء المشترك وعلى الوعاء الثقافي-السياسي –الاجتماعي الذي يكسب الصلابة والمعنى معًا يمثل الهاجس الأكبر عند الدول والحكومات في بلاد المعمور - وليس في فرنسا بمفردها.

الملاحظ،، طيلة السنوات الثلاثين الماضية، هو أنّ نظر الحكومات الفرنسية للفرنسيين المسلمين كاد يكون مقتصرًا على اللباس وعلى المظاهر الخارجية (غطاء شعر الرأس أو ما أطلق عليه نعت "المنديل الإسلامي le foulard islamiqueأولًا، إذ إنّ قانونًا جمهوريًا قضى باعتباره (بجانب الطاقية التي يضعها اليهود المتشددون فوق رؤوسهم، والصليب الذي يتدلى من العنق) من "الرموز التمييزية الصاخبة الظهور" -signes ostentatoires . وبعد عقد من ذلك سيثار جدل أكبر مداره ما نعت بحمام السباحة "الإسلامي". سيبلغ الأمر مدى أبعد من الشدة والصخب في السنوات القليلة الأخيرة من حول ارتداء الحجاب من قبل بعض الفتيات المسلمات في المدارس العمومية وفي مستهل العام الدراسي الحالي سيلقي الرئيس الفرنسي فرانسوا ماكرون خطابًا رسميًا يكاد مداره ينحصر في موضوع "العباءة" ووجوب منعها، في المدارس العمومية، وستبدو "العباية" كما لو كانت قطب الرحى في كل المشكلات التربوية والاجتماعية في فرنسا - لا بل ستتخذ "العباية"، في استغراب واستنكار من أحزاب المعارضة، صورة الخطر الداهم الذي يتهدد الجمهورية ويمسّها في هويتها الثقافية.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن