هذا عدد مذهل، وله معان كثيرة، فلو جرت هذه الأحداث في بلد كالولايات المتحدة لكان الحديث يدور بالنسبة والتناسب عن موت وجرح ما لا يقل عن 12 مليون إنسان في أقل من خمسة شهور. ولكم أن تتخيلوا ما الذي كانت ستفعله الولايات المتحدة لو حدث ذلك. ونحن نعرف عدد الحروب التي شنتها على امتداد الكرة الأرضية منذ قتل حوالى أربعة آلاف أميركي في أحداث ما عُرف بالحادي عشر من سبتمبر.
ربما لم يتخيّل أحد عندما بدأ العدوان الإسرائيلي على قطاع غزّة أنّ حرب الإبادة ستتجاوز 160 يومًا، وأنها ستجمع بين القتل بالقصف المدمّر، والقتل بالتجويع، وبالأمراض.
حوالى 45% من سكان غزة، أصيبوا بالأمراض وعشرات الأطفال بدأوا يموتون من الجوع على مرأى ومسمع من العالم
إذ تمارس إسرائيل ثلاث جرائم حرب في وقت واحد: الإبادة الجماعية، والتطهير العرقي، والعقوبات الجماعية التي لا ترحم طفلًا ولا مريضًا ولا شيخًا طاعنًا.
ومن نتائجها أنّ سبعمائة ألف إنسان على الأقل يعانون حاليًا من المجاعة الحقيقية في شمال غزة (بما في ذلك مدينة غزة)، وأنّ ما لا يقل عن مليون إنسان، أي حوالى 45% من سكان غزة، أصيبوا بالأمراض وبعضها خطير كالتهاب الكبد الوبائي.
وأنّ عشرات الأطفال بدأوا يموتون من الجوع على مرأى ومسمع من العالم. وأنّ ما لا يقل عن عشرة آلاف مريض بالسرطان في غزّة لا يتلقون أي علاج، ويموتون ألف مرّة كل يوم من الآلام والأوجاع التي لا تُحتمل.
وأنّ إسرائيل تجوّع الناس ثم تقتلهم عندما يخرجون للشوارع باحثين عن لقمة عيش يُسكتون بها صراخ أطفالهم وألمهم، وتجاوز عدد من قتلهم جيش الاحتلال وهم يحاولون الحصول على مساعدات غذائية 400 شخص، بالإضافة إلى آلاف الجرحى.
المائة وعشرة آلاف شهيد وجريح ليسوا مجرد أرقام، فكل إنسان منهم يمثّل قصة كاملة، وحياة كاملة، وآمالًا لم تتحقق، وأحلامًا لم تُترجم إلى واقع. وبالنسبة لأكثر من ثلاثة عشر ألف طفل، فإنّ حياتهم صارت خيطًا قصيرًا انقطع قبل أن ينمو، وقصة لم تكتمل، وجرحًا غائرًا في نفوس من بقوا أحياء من أهلهم.
وأصبح عشرون ألف طفل آخر يتامى، ومهما تعاطف معهم الناس والأقارب، فانهم سيكبرون من دون سند أبائهم، ومن دون حنان أمهاتهم الذي لا يعوّض، ولا يمكن أن يعوّض.
لن ينسى الشعب الفلسطيني ولن يغفر ما جرى
أما الألف طفل (حتى الآن) الذين فقدوا أيديهم أو أرجلهم أو كليهما، فسيعانون طوال حياتهم دون ذنوب اقترفوها، وقد جُرحت قلوبنا جميعًا ونحن نستمع لأحدهم يسأل والده ببراءة إن كانت يداه التي بترت ستنمو من جديد عندما يكبر.
ولكي يفهم الإنسان معاناة أهل غزّة، عليه أن يتذكر أنّ 70% منهم فقدوا منذ 76 عامًا بيوتهم وأرضهم وأملاكهم، وجاءوا لاجئين مهجرين بقوة التطهير العرقي الإسرائيلي إلى قطاع غزّة، ثم عليه أن يتخيّل أنه بعد ساعة من قراءة هذا المقال، سيرى بيته، ومكان عمله، وممتلكاته الشخصية، وغير الشخصية، مدمّرة بالكامل، وأنّ أعزّاءه أصبحوا شهداء أو مفقودين تحت دمار بيته، ولن يستطيع الوصول حتى إلى جثامينهم لدفنها، وأنّ عليه بعد ذلك أن يرحل مع من تبقى من أهله، إن بقي أحد، من مكان إلى آخر وحياته مهددة بالقصف الإسرائيلي وإمكانية الموت بين لحظة وأخرى، ثم عليه أن يتخيّل أنه يعيش في غرفة صغيرة مع ثمانين شخصًا في مدرسة أصبحت ملجأً، وأنّ عليه أن يشارك مائتي شخص على الأقل في استعمال المرحاض الوحيد المتوفر، وأن يشارك 2400 شخص آخر في استعمال الحمام الوحيد للاستحمام، هذا إن كان محظوظًا طبعا، لأنه يمكن أن يجد نفسه بعد ذلك في خيمة على قارعة الطريق، لا تقيه من برد أو مطر أو ريح، وأنه سيعاني الأمرين بعد ذلك ليجد لقمة خبز يسد بها رمقه، أو دواء لالتهاب أصابه بعد كل هذه الظروف القاسية، وإن كان مصابًا بمرض مزمن، فعليه أن يتعايش مع إمكانية وفاته المبكرة بالمضاعفات لاستحالة الحصول على العلاج الذي كان يحميه من الموت.
وعلى الأغلب، سيتذكر شعبنا بكل المرارة التي يمكن للبشر احتمالها أولئك الأجانب الذين كانوا يلقون عليه محاضرات في حقوق الإنسان والقانون الدولي والديمقراطية، ثم أداروا ظهورهم لمعاناته، لأنّ لإسرائيل، برأيهم، حق قتله وقتل أهله وتدمير بيته وممتلكاته باعتبار ذلك "دفاعًا عن النفس".
ثم عليه أن يبتلع خيبة الأمل، المغموسة بالأسى والإشمئزاز، من الأخوة والأشقاء الذين يتبارون في إصدار بيانات التضامن في النهار ويتآمرون في المساء مع الداعمين للعدوان، ويعجزون حتى عن توفير قطرة حليب لأطفال يموتون جوعى، و64 ألف أُمّ عاجزات عن إرضاع أطفالهن.
لا يحق بعد اليوم لكل من يتجاهل المعاناة أن يعطي دروسًا أو مواعظ للشعب الفلسطيني
لن ينسى الشعب الفلسطيني، ولن يغفر ما جرى ليس فقط خلال الأيام المائة والستين الماضية، بل وما جرى خلال 76 عامًا من التهجير، والقتل والتدمير والتنكر لحقوقه، والعجز عن التضامن معه.
لم تكسر هذه المعاناة الأقسى من أن يحتملها البشر العاديون شعبنا، ولن تكسر إرادته ولا صموده أو نضاله، ولكن لا يحق، بعد اليوم، لكل من يتجاهل المعاناة والحرب والعدوان وجرائم إسرائيل أن يعطي دروسًا أو مواعظ للشعب الفلسطيني، أو أن يتدخل في كيفية إدارته نضاله أو شؤون حياته.
ولا يجوز لأي كان أن يعتاد مشاهد الدمار والقتل والتشريد، أو أن يبرّر السكوت على الظلم الذي عشناه ونعيشه.
وسيبقى السؤال الذي يدور في عقل كل طفل فلسطيني عندما يقرأ تاريخ هذه الملحمة أو يسمع روايتها: لماذا استطاعت دولة، مثل جنوب افريقيا، أن تتحدى الظلم والظالمين وتجرؤ على جر إسرائيل لتُحاكَم أمام محكمة العدل الدولية، وعجز الآخرون؟.
(خاص "عروبة 22")