وفيما كانت عدن التي تتخذها الحكومة المعترف بها دوليًا عاصمة مؤقتة للبلاد تلملم جراحها بعد تحريرها من قبضة الحوثيين، كان المخرج الذي برز خلالها في أعماله المسرحية المتميزة يشق طريق البلاد إلى عالم السينما من خلال أول أفلامه "عشرة أيام قبل الزفة"، وبعد ذلك بثلاثة أعوام أنتج فيلم "المرهقون" ليطرق أبواب الحضور العالمي من خلال تجسيد جزء من المعاناة الكبيرة للسكان جراء الحرب التي لم تتوقف حتى اليوم.
في مايو (أيار) العام الماضي وضع اسم عمرو جمال، كأول مخرج من اليمن، ضمن قائمة 101 للأكثر تأثيرًا في صناعة السينما العربية، وهي القائمة التي يطلقها مركز السينما العربية سنويًّا على هامش مهرجان (كان)، وسبق ذلك وبعده أن فاز فيلمه (المرهقون) بخمس جوائز دولية أحدها من مهرجان برلين السينمائي الدولي وأخرى من شيكاغو وآخرها حصوله على جائزة أفضل تصوير سينمائي في مهرجان بغداد.
ومع ذلك يؤكد عمرو جمال لـ"عروبة 22" أنّ هذا الحضور يظل تجربة فردية وأنّ الحضور اليمني في صناعة السينما لم يتجاوز خمسة أفلام في كل تاريخ البلاد، ويرى أنّ السينما في اليمن تجربه كالنبتة الشيطانية لأنها نبتت بدون أن يزرعها أحد أو يرويها، ويقول إنّ المهم هو كيفية تحويل هذه المبادرات إلى نهج ثابت خاصة في بلد يفتقر للمهرجانات والكوادر بسبب العقود الطويلة التي لم يتم بها التأهيل الكافي.
ويشدد المخرج الشاب على وجوب أن تتدخل الدولة بثقلها وأن يكون لها دور في الانتاج المسرحي والسينمائي، لان من شأن ذلك أيضًا أن يكون محفزًا لرجال الأعمال لافتتاح دور عرض، فعندها ستوجد منافسه وعندها سيكون هناك انتاج سينمائي، لأنّ اليمن يفتقر للبنية التحتية على صعيد الانتاج والعرض فليس هناك مسارح ودور السينما، كلها مدمرة وتفتقر إلى التجديد وليس هناك أي بناء جديد.
ويشكو جمال من غياب البنية التحتية، ويقول إنه لا يوجد في كل مدينة عدن مركز ثقافي واحد منذ أربعين سنة، وقس على ذلك بقية المناطق، ويؤكد أنّ المدينة التي عرفت السينما لأول مرة في ستينات القرن الماضي لا تمتلك أماكن للبروفات ولا أدوات سينمائية ولا تقنيات حديثة، ويعيد التأكيد على أنه في ظل البنية التحتية المدمرة، فإنّ الدولة يجب عليها أن تتدخل ثم تأمين رأس المال الوطني لتجاوز هذا الواقع المر.
وكان اليمن اختار فيلم "المرهقون" لتمثيله في التنافس على الترشيح لأوسكار أفضل فيلم عالمي 2024. والذي تدور أحداثه في عام 2019 ويتناول قصة معاناة حقيقية لزوجين في المدينة - إسراء وأحمد - يبذلان قصارى جهدهما لتوفير حياة طبيعية وتعليم أطفالهما الثلاثة الصغار، حيث يكتشفان أن إسراء حامل مرة أخرى، ويتعين عليهما اتخاذ قرار صعب.
ويذكر الناقد السينمائي طارق الشناوي أنّ الفيلم يتناول واقع أسرة بسيطة تريد أن تمسك بالحياة بأقل القليل منها، بينما كل ما يحيط بها يدفعها إلى الانسحاب التدريجي من الحياة. ويرى أنّ الفيلم صار يحمل اسم (اليمن)، ولأول مرة كفيلم روائي طويل، لأنّ هذا البلد شارك من قبل بأفلام تسجيلية وقصيرة على ندرتها، إلا أنّ المبدع اليمني عمرو جمال استطاع أن يعبّر عن نفسه من ثقب إبرة، ولم يكن هذا هو إنجازه الوحيد، فقد قدّم تجارب سابقة، منها (هاملت) على المسرح، فهو صاحب مشروع متكامل وليس مجرد فيلم.
المخرج الشاب كان وضع قدمه على أول الطريق في العام 2005 عندما أسّس (فرقة خليج عدن)، والتي سجلت حضورًا استثنائيًا على المسرح اليمني وتمكنت من إنتاج الأفلام القصيرة، وباحترافية ملحوظة، مستفيدة من صناديق الدعم الفني العالمية، وحتى اليوم لا يزال هذا المخرج يقود صناعة السينما في اليمن بدون منازع.
ورغم وجود محاولات يمنية متواضعة للولوج إلى عالم الإنتاج السينمائي إلا انها كانت محاولات متواضعة ومحدودة، بخلاف ما يفعله المخرج عمرو جمال الذي أصبح ضيفًا في أغلب مهرجانات السينما العالمية، حيث يذكر الإعلامي شكيب عوض أنّ المصوّر، جعفر محمد علي، أنتج فيلمَه السينمائي الروائي (من الكوخ إلى القصر)، وعُرض جماهيريًّا لأول مرة، في مدينة عدن، عام 1965، على مسرح مدرسة البادري وهذا المسرح كان منطلقًا لكثير من الفنانين الكبار أمثال أبو بكر سالم ومحمد سعد عبد الله، وعُدَّ بذلك أول فيلم بتاريخ السينما في اليمن.
لكن الكاتب الصحافي علي سالم اليزيدي يخالف ذلك ويقول إنّ أول فيلم أُنجز في البلاد، كان قبل ذلك، وهو فيلم (عبث المشيب) عام 1951، في محافظة حضرموت غير أنّ هذا الفيلم لم يُعرض جماهيريًّا.
عرف اليمنيون السينما في مدينة عدن عام 1918، عندما شاهد الجمهور هناك، لأول مرّة العروض السينمائية، وكانت العروض السائدة حينها للأفلام الهندية، إلا أنه ورغم المعرفة المبكرة بهذا الفن، لم يتمكنوا من اقتحام مجال صناعته لأسباب ارتبطت إما بالصراعات السياسية خاصة في الجنوب، أو باهتمامات أنظمة الحكم المتعاقبة.
ويؤكد الكاتب عبد الرحمن أحمد عبده أنّ فيلم "المرهقون"، يظلّ العمل السينمائي اليمني الإبداعي الفردي، أي أنّ العمل السينمائي الروائي لا يزال مرتبطًا بالفرد. في حين أنّ هذا الفن صناعة ذات تكلفة عالية وتحتاج إلى إمكانيات مالية كبيرة، وتتطلب كوادر كثيرة، ومستلزمات تقنية حديثة وتسويق.
ويحدد الكاتب البداية الحقيقية والصحيحة، في مجال الإنتاج السينمائي، مع إنشاء المؤسسة العامة للسينما في جنوب البلاد عام 1972، أي بعد الاستقلال من الاستعمار البريطاني، وتزامن ذلك مع إيفاد العديد من الشباب لدراسة فن السينما بجميع تخصصاته خارج البلاد، وأنجزت المؤسسة 45 فيلمًا تسجيليًّا وعددًا من المجلات السينمائية الإخبارية، مستعينة في إنتاج بعضها بخبرات عربية فلسطينية وعراقية، وكانت تعرض في دُور السينما بالمحافظات، كما شاركت بعضها في عدة مهرجانات دولية بفئة الأفلام الوثائقية والتسجيلية.
ويجزم بأنّ آخر جهود المؤسسة العامة للسينما في عدن، قبل عام 1990، حصولها على موافقة الحكومة، بمنحها أرضية واسعة في منطقة العريش بضواحي عدن، لإنشاء مدينة إنتاج سينمائي، إلا أنّ نهاية النصف الأول لتسعينيات القرن الماضي، شكلت بداية الانهيار في اليمن للدور الرسمي تجاه فن السينما، وخاصة بعد حرب عام 1994، حيث تخلت الحكومة عن هذا الدور، رغم الوجود الشكلي للمؤسسة، التي لم تمنح أي امكانات للعمل.
وفي مقابل الإهمال وتغيّب دور المؤسسة العامة للسينما سيطر التيار الديني المتشدد والمناهض للفنون بشكل عام على المشهد الثقافي أثناء تحالف الرئيس الراحل علي عبد الله صالح مع حزب الإصلاح (الفرع اليمني لجماعة الاخوان)، حيث تميّزت تلك الفترة بإغلاق دور السينما في كل محافظات البلاد وتحويل بعضها إلى مساجد. كم تم إهمال المسرح وفرق الإنشاد الغنائي الحكومية التي خرج منها أجيال من الموسيقيين والفنانين.
ومع أنّ ثلاثة عقود مرّت على انتهاء الحرب، وعقدين على فض التحالف بين نظام حكم الرئيس صالح وحزب الإصلاح، إلا أنّ مجالات الفنون بشكل عام شهدت تراجعًا غير مسبوق، ومنها قطاع السينما، وهي الحالة التي لا تزال قائمة حتى اليوم باستثناء المحاولات الفردية التي يقودها مجموعة من الشباب في عدن من أجل إعادة ترميم بعض دور السينما وتشغيلها فيما يكتفي الجانب الحكومي بالإعلان عن دعمه لهذا التوجّه دون أي فعل.
(خاص "عروبة 22")