مراجعات

"أنسنة المدرسة"التربية على التوجيه وتنمية الذات

ما الذي يؤدي إلى نجاح التلاميذ أو فشلهم؟ سؤال تمّ تشييده انطلاقًا من علم الاجتماع وبقية العلوم الإنسانية، وشمل كل حقول التربية. لقد ركز علم الاجتماع على دراسة تأثيرات الوسط الاجتماعي، في حين اهتم علماء النفس برصد الدوافع الشخصية للأداء (الحافز، المثابرة، الثقة بالنفس، الجانب العاطفي…). أمّا علماء النفس المعرفي، فيقيسون الذكاء (أو الذكاءات!) ويزعمون فك شفرات شبكات التعلم العصبية، في حين يؤكّد علماء التربية على دور المدرس وعلى دور مناهجه في التدريس، ودور المدرسة في تغذية ثقة التلميذ بنفسه أو دفعه نحو المزيد من المثابرة؟.

تفاعل باحثٌ تونسيٌ يمتلك تجربة بيداغوجية طويلة، نظريًا وعمليًا، مع هذه الأسئلة والإشكاليات، والحديث عن الدكتور الباحث محرز الدريسي، مقترحًا الخوض فيها برؤى مركّبة من خلال مؤلفه الجديد الموسوم بـ"أنسنه المدرسة: التربية على التوجيه وتنمية الذات"، الذي نَشرته دار المقدمة، من تقديم أستاذ علم الاجتماع مهدي مبروك. (طبعة أولى، تونس 2024).

جاء الكتاب في نحو 354 صفحة موزّعة على ثلاثة أبواب وتسعة فصول، حيث خصّص ثلث الكتاب للمنهجية والمفاهيم بينما كان الثلثين الباقيين للتربية على التوجيه وتنمية الذات لدى المتعلم بالإضافة للمقدمة العامة والتوطئة والخاتمة العامة، كما تضمّن العمل قائمًة بالمراجع التي اعتمدها الباحث.

تطبيق مبدأ "التلميذ محور العملية التربوية" عمليًا وميدانيًا مع العناية بمواهبه وقدراته واهتماماته

اشتغل محرز الدريسي في كتابه على التوجيه وتنمية الذات للإجابة عن سؤال محوري: كيف يساهم التوجيه في بلورة أدوات بيداغوجية وتربوية تساهم في تنمية الذات التلمذية وتربية المتعلم على معرفة الذات وتنشيط مهارات حل المشكلات وتطوير قدرات بلورة المشروع الشخصي؟ وهي عناصر ثقافة مدرسية تبدو جديدة هدفها مرافقة المراهق/ التلميذ حتى تساهم في استحضار الأبعاد التربوية والإنسانية للمدرسة.

توقف الباحث على امتداد الكتاب على أهمية تفعيل نجاعة التوجيه المدرسي ومقاربته باعتباره خدمة اجتماعية للمجتمع ولشباب المدرسة، الأمر يتطلب حسب المؤلف، تبنّي ثقافة تربوية وقيمية جديدة تفتح أفقًا إرشادية وتأطيرية تضفي البُعد الإنساني وأنسنة المؤسسة التربوية، وذلك عبر إرساء فكرة المشروع الشخصي، الذي لا يعتبر حلًا سحريًا جاهزًا يستغني عن العمل، بل يُمثّل استثمارًا يمكن استغلاله في تطوير التمثلات، مثلما يمنح للمدرسة دورًا اجتماعيًا جديدًا يتجاوز دور التعليم.

يرى الباحث ضرورة اعتماد تربية تلائم حاجيات الأفراد وتمدهم بالقدرة على التكيّف بسرعة مع الأوضاع الجديدة وامتلاك المنهجيات والكفايات والمهارات عوض شحنهم بالمعلومات والمعارف. وتطابق هذه المقاربة حاجيات المراهقين للاستقلالية والحرية والمشاركة الفعلية، وهذا من شأنه أن ينمي الرغبة في العمل والاجتهاد ويساعد على تنمية قدرات نوعية تيسّر بناء المشاريع، فيصبح التلميذ فاعلًا مشاركًا باعتبار أنّه يعرف إلى أين يتجه وبالتالي يضع خطّة عمل ويبلور استراتيجيات للدراسة.

نحن إزاء عناصر لثقافة مدرسية جديدة يدعو إليها الباحث لترسيخ الأبعاد التربوية والإنسانية للمدرسة كما يسهل فهمها وتطبيقها في أعماقها، وقد تساهم هذه المقاربة في إحياء تلك الأبعاد وبناء التعليم والتعلّم على أُسُسها.

الهدف أن تغيّر المدرسة من مقاربتها التقليدية مما يجعلها تلعب دورها في نحت مؤهلات الإنسان - التلميذ

ولتوفير أسباب النجاح لتلك الرؤية يدعو المؤلف إلى عدم التغافل على تطبيق مبدأ "التلميذ محور العملية التربوية" عمليًا وميدانيًا، مع العناية بمواهبه وقدراته واهتماماته لأنّه الفاعل المحور في المنظومة التربوية. والهدف من ذلك حسب الكاتب أن تغيّر المدرسة من مقاربتها التقليدية نحو مقاربة إنسانية مما يحسّن من أدائها ويجعلها تلعب دورها في نحت مؤهلات الإنسان (التلميذ) وتنمية مهارات الحياة ومعرفة الذات وترسيخ ثقافة الاختيار والجرأة وأخذ القرار لديه.

ولتحقيق ما يدعو إليه الباحث حرص على ضبط وبيان وتحليل ما من شأنه أن يساعد على تجويد مجال التوجيه المدرسي ومرجعياته ومنهجياته وآلياته وعلى توظيف أدوات تنشيط التوجيه الفردي والمقابلات الشخصية ومقارباته الإرشادية.

وعلى خلفية ما سبق، يمكن اعتبار هذا المؤلف مقدمة لمشروع تربوي قد يساهم ولو – جزئيًا - في أنسنة المدرسة، لتصبح أكثر إنسانية وأقرب لاهتمامات التلاميذ وتطلعاتهم، وأن تنافح عن قيم الإنصاف والعدالة ولا تكون مجرد فضاء للتنافس والاستحقاقات المدرسية الجافة، وإنّما فضاء التدرب على المهارات الأفقية ونحت الشخصية البناءة والفاعلة.

هذا المشروع إضاءة على الإمكانات التي يختزنها نشاط التوجيه من مجرد إعلام عن شروط التوجيه المدرسي والجامعي إلى إتاحة فرص الحوار والتحادث، والمساهمة في إخراج التلميذ من قوقعته وإعلان مشكلاته والتفاعل الحي مع المربين.

كما يُعتبر الكتاب محاولة للدفاع عن مدرسة مختلفة و"صديقة" للمتعلّم والمراهق بجعل فضاءاتها وممارساتها جاذبة تلامس مشاغله وصعوباته النفسية والمعرفية والاجتماعية، لأنّ المدرسة ليست طريق الحياة بل هي الحياة، ففيها يتعلّم التلميذ حروفه الأولى ويختبر سلوكاته ويصنع وعيه ويُجرّب علاقاته ويحلم فيها وهي عناصر ثقافة لمدرسة جديدة تعتمد مرافقة التلميذ المراهق، تساهم جزئيُا أو كليًا في استحضار الأبعاد التربوية والإنسانية للمدرسة.

لقد أنجز هذا الكتاب وِفق المعايير الأكاديمية التي جمعت بين البحث النظري والعتاد المفاهيمي والانخراط الميداني والتربوي، مع تدقيق التمشي المنهجي من خلال ضبط المتغيّرات المستقلة والمتغيرات التابعة والمراقبة، وأبرز الصدقية الداخلية والخارجية للأدوات البحثية المعتمدة في مختلف مراحل البحث، الأمر الذي يتيح للقارئ أو المربّي الباحث أو الفاعل التربوي الاستعانة بفكرة أو مقترح لتطوير ممارسته المهنية وفتح روافد مرافقة وتأطير الفضاء المدرسي.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن