صحيحٌ أنّ كـثافـة العنـف والقـمع التي أفصحت عـنها سياساتُ النّـظام النّـازيّ في ألمانـيا - والنّـظام الستالينيّ في روسيا السّوڤييتـيّـة - سواء تجاه المواطنين في الدّاخل أو تجاه شعوب أوروبيّـة أخرى، اجتاح الجيش الألمانيّ أراضيها وفرض عليها واقـعَ الاحتلال، كثافـةٌ غيرُ مألوفة في أوروبا الحديثة وتجافي القواعد التي دُرِج عليها في ممارسة السّلطة منذ بدايات القرن التّاسع عشر؛ وهي، لذلك السّبب، قد تبدو وكأنّها تعبِّر عن حالةٍ شاذّة لا تجد لنفسها نسبًا وأصلًا في التّاريخ السّياسيّ الأوروبيّ لذلك العهد؛ أو هكذا - على الأقـلّ - تصوّرها الأغلبُ السّاحق من الأوروبيّين الذين صَدمَـتْهم الواقعةُ النّازيّـة وتراءت لهم سابقـةً سياسيّةً غريبـةً لا أشباه لها ولا نظائر.
أظهر الوسائل التي عزت إليها نجاحَ النّازيّة وحزبِها في الصّعود هي الشّعبويّةُ
لكنّ فرادةَ عمل حنّـة أرنـدت النّـقـديّ تكمن، بالذّات، في تجديفها ضدّ تـيّارٍ فـكريّ وسيّـاسيّ استسهل قراءة الواقعة النّازيّـة من طريق ردّها إلى مجرّد نزعات مَرَضيّة نفسيّة لقادة متعطّشين للدّماء، أو إلى مجرّد انحرافات سياسيّة عن جادّةِ السّياسة التي أقـرَّ العـقـلُ الحديث قواعـدها. بـدلاً من ذلك، أسّست قراءَتها لهذه "النّازِلة" النّـازيّـة على فرضيّـاتِ تحليلٍ رصينة من قبيل علاقة هذه الثّـمرة السّيئة بنظام الـدّولـة الوطنـيّـة ذاتـه... الذي أَثْمرها.
منطلق تحليل حنّة أرنـدت هو أنّ نموذج الـدّولـة الوطنـيّـة الأوروبيّ دخل طورًا من التّـأزّم السّياسيّ، بل البنـيويّ، الحادّ كشفتِ النّازيّـةُ عن أعطابه لأنّها، بكلّ بساطة، من ثمراته المُـرّة. لم تَخْرجِ النّازيّـةُ من عـدمٍ، في رأيها، بل من طريق مؤسّسات الـدّولـة الوطنـيّـة نفسها، ومن طريق وسائـلَ في مخاطبةِ الجمهور وبناء الرّأي العامّ ليست غريبـةً عن تقاليد السّياسة في الـدّولـة الحديثة: منذ عهد اليعـقوبيّين إبّان الثّـورة الفرنسيّة. أظهر تلك الوسائل، التي عـزت إليها نجاحَ النّازيّـة وحزبِها في الصّعود، هي الشّعبويّـةُ والخطاب الشّعبويّ التّعبويّ والتّجييشيّ.
تنامي حركات النّازيّين الجدد في أوروبا اليوم امتداد لموجة تعاطُف نخب أوروبا مع النّازيّة
وهكذا كما كان يمكن أن تكون الشّعبويّـةُ صهْـوةً يُحْـمَل عليها المشروعُ السّياسيّ النّـازيّ للوصول إلى السّلطة، بوسائط الاقـتراع، وهو عينُ ما حصل بصعود هـتلر وحـزبه، كذلك يمكنُها أن تَـتَوسَّل المشروعَ عـيـنَه لتركيب نظامٍ سياسيّ جديدٍ مغلَق، وفرضِ نظامٍ اجتماعيّ عـامٍّ مُـنَمَّـط هو ذاك الذي دعتْه باسم النّـظام الكُلاّنيّ (أو التّوتاليتاريّ): الذي ينعدم فيه وجود المجال الخاصّ، وتُـهْتَـك فيه الحقوقُ والحريّات. هكذا، إذن، أتى تأزُّمُ نموذج الـدّولـة الوطنـيّـة يقود هذه الـدّولـة إلى نقيضها الذي صار، في الوقتِ عينِه، حتـفَها!
من الواضح أنّ الكثير من نـقـد حنّـة أرنـدت لنموذج الـدّولـة الوطنـيّـة كان دقيـقًا، حتّى في ما لم تَعْـتنِ هي بدراسته؛ ومن ذلك، مثـلًا، أنّ السّلطان السّياسيّ والإيديولوجيّ للنّازيّـة لم ينحصر في ألمانيا، فحسب، وإنّما كان له عظيمُ النّفوذ حتّى في البيئات الثّـقافيّـة والأكاديميّـة والسّياسيّـة في قسـمٍ كبيرٍ من بلدان أوروبا، وليس تنامي حركات النّازيّـيـن الجدد، في أوروبا اليوم، أكثر من امتـدادٍ لموجة تعاطُف نخب أوروبا مع النّازيّـة التي خاطبت في أعماقهم فكـرةً مؤسِّسة للوعي الغربيّ الحديث، تحوّلتْ إلى معتـقـدٍ جمْعيّ، هي فكرة القـوّة والشّعور العارم بالتّـفـوّق.
(خاص "عروبة 22")