اليوم، لم يعد من نافلة القول، ضرورة أن تفرض البرمجيات العربية وجودها بقوة في حركة حياتنا المجتمعية، وأن تساهم في تفعيل مشاريعنا المختلفة في التنمية الاجتماعية والاقتصادية والثقافية بشكل خاص. لم يعد ممكنًا، ألا تكون توجهاتنا النهضوية، رقميةً، وفي صدارة اهتماماتنا؛ فهي التي تحفظ كياننا الفعلي في عالمنا البشري الحالي المتشابك. ومع أنّ مشاريع النهضة العربية عديدة، والتصورات كثيرة، متنوعة، ولكنها تتلاقى جميعًا في لزوم تجاوز الهوة الحضارية بيننا وبين الغرب المتقدم.
أصبحت قنوات اتصالنا وتواصلنا الاجتماعي مسيطرًا عليها وموجَّهة من خلال المنتجات الإلكترونية والسياسات الغربية
إننا، في هذا الزمن، بمثابة رهائن لما ينتجه الغرب من تكنولوجيا تهيمن على توجهات العالم السياسية والأيديولوجية والاقتصادية، وتحتكر المحتوى الثقافي من خلال المبتكرات التقنية المتنوعة في مجالات الإنتاج الإعلامي، والتعليمي، والأدبي، والسينمائي، والفني؛ وإنه حتى قنوات اتصالنا وتواصلنا الاجتماعي أصحبت مسيطرًا عليها، ومحتكرة، وموجَّهة، من خلال المنتجات الإلكترونية والسياسات الغربية، وبخاصة من قبل الدول المتصدرة، مثل الولايات المتحدة الأمريكية والصين والهند وأوروبا الغربية وروسيا، الخ...
يأتي في مقدمة هذه المنتجات الرقمية، ما يُعرف بوسائل التواصل الاجتماعي (سوشيال ميديا)، وهي الوسائط الرقمية التي أتاحت للإنسان أن يكون حاضرًا تفاعليًا، في أي مكان وفي أي وقت مع من يشاء من سكان الأرض، على النظام الإلكتروني المستخدم نفسه. تنفتح له نوافذ المحادثة النصية والصوتية والرؤية البصرية، وتبادل الرأي بالتعليق والإعجاب والقبول أو الرفض، والتنقل من مكان رقمي إلى آخر في سعة من التعدد والتنوع الثقافي والاجتماعي.
لا شك، في هذا الخصوص، أن تطبيق "فيسبوك – facebook"، أصبح أهم منصة، بل منصات برمجية هائلة الانتشار بما تقدمه من خدمات متميزة وخصائص لا تتوفر كثيرًا في غيره من وسائل التواصل الاجتماعي. ولكنه، لجملة من العيوب وما ظهر عليه من مساوئ مؤخرًا، أصبح مستخدموه يبحثون عن البديل. وخصوصا نحن العرب، لما أصابنا منه من فرض أجندته الاحتكارية على تفاعلنا الاجتماعي الحرّ، وما أخذ يوجبه علينا من منع ورفض وغلق وتوجيه... بحسب سياسته التي تعارض توجهنا الإنساني والوقوف إلى جانب قضيتنا العادلة في فلسطين، ودعمنا المشروع لشعبنا العربي في غزّة، ضد ما يعانيه من ويلات الوحشية الصهيونية، وما يتعرض له من إبادة جماعية شرسة، برهن القائمون على "فيسبوك" علنًا على ولائهم ودعمهم الكبير لها، بما يفرضونه من بعض الضوابط التفاعلية الظالمة.
على أية حال، هل بإمكاننا نحن العرب تطوير برمجيات متحررة من سياسات الاحتكار الرقمية في "فيسبوك" مثلًا، أو في غيره من التطبيقات والمنصات الرقمية الأخرى المطوّرة غربيًا؟
وإلى أي مدى يمكننا تحقيق ذلك، بالمواصفات والخصائص المطلوبة؟
الإجابة، باختصار: نعم، بكل قوة، يمكننا تحقيق ذلك.
لفحص هذه الإجابة، بشيء من التوسعة، لنلقِ أولًا نظرة سريعة على هذا التطبيق الأساسي "فيسبوك"، الذي يمكن اعتباره "قياسيًا" في صناعة البرمجيات التواصلية الاجتماعية. ثم ننظر في النقاط الأخرى ذات العلاقة.
معلوم أنّ "فيسبوك" ابتُكر بدايةً في جامعة هارفارد الأمريكية على يد مجموعة من طلابها، أولهم مارك زوكربيرج، ومساعدوه: كريس هيوز، وإدوارد سافرين، وأندرو ماكولم، وداستن موسكوفيتز. وذلك لتقديم خدمات طلابية في الجامعة عينها، وسرعان ما اكتسب شعبية في جميع الجامعات الأمريكية، ولاقى قبولًا وتشجيعًا منقطع النظير من قبل مستخدميه، بعد أن طرح في الأسواق سنة 2004. واليوم، يعتبر تطبيق "فيسبوك" بما يقدّمه من خدمات الاتصال والتفاعل ونشر المحتوى وميزاته الإعلامية والتجارية والتعليمية، وغيرها؛ والتي تعمل جميعًا بتقنية فائقة السرعة على مختلف الأجهزة المحمولة بأنظمة "آي فون" و"آندرويد"؛ فضلًا عن إضافته لتقنيات جديدة مثل "تطبيق فيسبوك للهاتف المحمول"، وغيره؛ لدرجة أنه أصبح اليوم فعلًا منافسًا قويًا لكبريات الأنظمة الرقمية الأمريكية وغيرها، والتي ظهرت قبله على الإنترنت، وربما أصبح أكثر منها شهرة من حيث الاستخدام المتواصل، على اختلاف خصائصها وتنوع استخداماتها، مثل محرك البحث "غوغل" الذي انطلق في 1998، أو موقع التجارة الإلكترونية "أمازون" تأسّس في 1994، وغيرهما. بل لم يزل متفوقًا حتى على الأنظمة التي تشبهه وظهرت من بعده، مثلا "يوتيوب" في 2005، و"تويتر" في 2006...
عيوب كبيرة ظهرت مؤخرًا من انتهاك الخصوصية وفرض الأجندات وضوابط الاستخدام غير المقبولة لدى الكثيرين
غير أنه بعد كل هذا التطور لشركة "فيسبوك"، للأسف، أصبحت تنتهك خصوصيات المستخدمين، وتبيع المعلومات التي تجمعها منهم -دون إذنهم- لشركات أخرى تجارية وبحثية وأمنية... مقابل الأموال الطائلة. خاصةً بعد أن أعلن مبتكر ومؤسس "فيسبوك" (مارك زوكربيرج) في عام 2022، عن إطلاق الشركة الجديدة "ميتا بلاتفورمز" أو "ميتا" كشركة أمريكية متعددة الجنسيات، وشركة أُم لمجموعة من منصات التواصل الاجتماعي، تمتلك ليس "فيسبوك" فحسب، بل أيضا "إنستجرام"، و"واتساب"، و"ماسنجر"، و"ثريدز"...
وفقًا لآخر بيانات ستاتيستا Statista، قرابة ثلاثة مليارات فرد يستخدمون "فيسبوك" عالميًا كل شهر، ناهيك عن استخدام المنصات الأخرى المذكورة المملوكة لشركة "ميتا"!.. ولا شك أن هذا الانتشار الهائل تحقق لما تميّز به "فيسبوك" من مزايا التفاعل السريع، وسهولة الاستخدام، والتنوع في أدوات التعبير، والانفتاح على تقنيات ومنصات رقمية أخرى، الخ... ولكن، تظل عيوبه الكبيرة التي ظهرت مؤخرًا، مثلما أشرنا إليه من انتهاك الخصوصية، واحتكار التفاعل، والتوجيه المغرض، وفرض الأجندات وضوابط الاستخدام غير المقبولة لدى الكثيرين، فضلًا عن كثرة الإعلانات التجارية، إلى جانب ما قد يصيب مستخدميه خاصة صغار السن من إدمان، وإرهاق، وما يحتويه من مظاهر التنمّر، ما يؤدي إلى زيادة القلق، والتوتر، وربما الاكتئاب؛ كما أشارت بعض الدراسات الأخيرة عن استخدام "فيسبوك".
من المتوقع أن تصل القيمة السوقية لتطبيقات الوسائط الاجتماعية إلى حوالى 15.6 مليار دولار بحلول عام 2025
نتيجة لما ذكر، انتشرت وسائل التواصل الاجتماعي الأخرى بصورة كبيرة جدًا في الفترات الأخيرة، وتنافست الشركات الغربية والشرقية في إنتاج برمجيات قوية التأثير سواء في جذب المستخدمين أو التوجيه الاجتماعي والثقافي، أو الاستحواذ ما أمكن على الأنشطة الاقتصادية والتجارية والدعائية المختلفة... ووفقًا لأكبر شركات أبحاث السوق العالمية، من المتوقع أن تصل القيمة السوقية لتطبيقات الوسائط الاجتماعية إلى حوالى 15.6 مليار دولار، بحلول عام 2025. ويمكن الإشارة هنا إلى بعض هذه التطبيقات غير "فيسبوك"، والتي تسعى لمنافسته، ويقدّر مستخدموها بالملايين. على سبيل المثال وليس الحصر، نجد التطبيقات الأمريكية الأخرى كما أشرنا: "يوتيوب"، و"تويتر"؛ وغيرها مثل "سناب شات"، و"لينكد إن"، و"ريديت"؛ والتطبيقات الصينية مثل "ويتشات"، و"تيك توك"؛ والروسية مثل "فكونتاكتي"، و"تيليجرام"؛ والتطبيق الهندي "إليمنتس Elyments"، والألماني "كوميونيتي"، إلخ. كذلك، في عالمنا العربي ظهرت بعض التطبيقات التي تشق طريقها في هذا المجال، وأصبح لديها آلاف المستخدمين مثل "عرب فيس ArabFace"، و"باز Baaz"، والتطبيق العربي المصري الأخير "آي توب iTop".
(خاص "عروبة 22")