ثقافة

"على يمين القلب".. رائحة فلسطين والناس والحرب!

القاهرة - منى أبو النصر

المشاركة

تفتتح الكاتبة الفلسطينية ليالي بدر روايتها "على يمين القلب" بمشهد أُم تُعلّم ابنتها التطريز لأول مرّة، تتذكر بطلة الرواية والدتها وهي تغرز إبرة بخيط مُلوّن في القماش المشدود إلى برواز خشبي وتسحب الخيط برِفق، وهو مشهد يقود لقراءات مُتعددة، بداية من كونِه مدخلًا للإرث الفلسطيني الذي يُعد التطريز أحد أبرز فنونه، مرورًا بالتأسيس المُبكر لثيمة تعاقُب الأجيال الفلسطينية التي تنهض الرواية على تقصي تاريخهم مع الشتات، ووصولًا للأسلوب الأدبي لكتابة الرواية التي يبدو وكأنها تُحاكي فنّ التطريز، حيث تنسج ليالي بدر السرد الشخصي لبطلتها "غرام" على خلفية تاريخ وحكاية الوطن.

صدرت رواية "على يمين القلب" أخيرًا عن دار "العين" للنشر بالقاهرة، وبها تتبع البطلة "غرام" صوتها الذاتي الخاص، وهي تسعى لفهم علاقتها الخاصة بمسقط رأسها "أريحا" التي لم تبرح وجدانها رغم الاغتراب الذي زعزع استقرار عائلتها عبر سنوات طويلة، لا سيما بعد حرب 1967 التي دفعت عائلتها للهجرة إلى الكويت، وهناك تبدأ في اختبار العالم بعين الطفلة المُهاجرة، التي تنظر لوطنها من مسافة حنين وعدم استيعاب للابتعاد، ولا الحرب.

وعلى الرغم من امتداد الزمن والمكان السردي الذي يدور فيه عالم البطلة، إلا أنّ علاقتها بأريحا تظل استثناء، فهي تحملها معها أينما ارتحلت، بروائحها وملامحها وندوبها، تقول: "ذكريات طفولتي كثيرة، الأعراس وسطح البيت وأريحا. أريحا، هو الاسم الأكثر حضورًا في ذكرياتي، أتذكَّر تهجئتي لحروف اسمها، أريحا الناس والبيوت، وفلسطين التي كانت".

أريحا.. رائحة البرتقال

يبدو استنطاق الرواية لذاكرة البطلة بلسان طفولتها، محاولة لمُقاربة التطوّرات التي آلت لانقسامات الوطن الفلسطيني عبر السنوات، فتستخدم الرواية لغة السرد الذاتي بضمير المتكلم، التي تقتنص فيها البطلة ومضات من تاريخ الأسطح والحقول وأشجار البرتقال، وثياب فلاحات رام الله في الأعراس، والروائح: "‫كل الأمكنة لها روائحها عندي. لأريحا رائحة البرتقال. رائحة أشجار السرو تعني لي القدس".‬

وتقودها تلك الذكريات إلى بواكير انشغالها بجذور عائلتها، وذلك الشرخ المُبكر الذي تسبب في انقسام عائلة والدتها بعد هجوم عصابات "الهاجانا" الإسرائيلية على الفلسطينيين في بيوتهم وقُراهم، وبعد اشتباكات ضارية صدر قرار مجلس الأمن بتقسيم فلسطين، فتقود مفارقات درامية إلى تشرّد نصف عائلة أمها في القدس الغربية، والنصف الثاني في الشرقية، في انقسام مُبكر أصاب عائلة جدتها لأمها، وظلّت تبعاته مُمتدة العواقب، انقسام يقود لانقسامات عائلية، وجغرافية، وتاريخية.‬

تتذكر وهي طفلة، ذات عشرة أعوام، ذلك التزامن التراجيدي بين موت والدتها، وبين اندلاع حرب 1967، تلك الحرب التي حفرت في ذاكرتها فواجع القصف والصواريخ والدماء، تمر بكل هذا وهي تختبر مشاعر اليُتم لأول مرّة دون أُم، تتذكر مشاهد هذا الهلع الذي أصاب الجميع، رجال وعجائز ونساء، والأهالي المفزوعة من اجتياح الجيش الاسرائيلي لأريحا وتعرض بناتهن للاغتصاب أو القتل كما فعلوا في "كفر قاسم" وأماكن أخرى، تتذكر البطلة غرام تمسك والدها بعدم مغادرة أريحا، حتى تفاقمت الأوضاع فانصاع الأب لخوفه على بناته من اغتصاب اليهود الذي بات مشهودًا، وهو الأب الذي كان يعمل طبيبًا وشاهد عيان على خلو المستشفيات من كل المعدات الطبية بعد استنفادها بالكامل، فاضطرت العائلة إلى الهجرة، فشقّت طريقها إلى عمّان، لتختبر البطلة أول مشاعر الاغتراب والقهر وهي في هذا العمر المُبكر: "مكوثنا في عمَّان كان عليلًا.. الكل مدّ يد المساعدة لنا، لكن فراق وطننا لم يكن له علاج يشفيه".

الحرب والهجرة

كانت عمّان محطة قصيرة مرّت عليها العائلة في طريقها للكويت التي أصبحت ملاذًا للاجئين في هذا الوقت، فتبدأ غرام مُعايشة تجربة اللجوء و"رحلة اغتراب لا تنتهي"، تُودّع طفولتها وتدخل مرحلة الشباب رويدًا، وتختبر الاحتياج والنفقات التي لم تعد تكفي العائلة الكبيرة، تقول: "بابا في الكويت لم يعد كبابا الذي كان في أريحا. صار رجلًا لا نكاد نعرفه، الحرب والهجرة عن الوطن قشرتا عواطفه ونشَّفتاها".

يتسع المكان الجديد، تختل المشاعر، تقتحم مفردات جديدة قاموس الطفلة، فتعلم أنّ تعبير "بيوت الأجانب" يُطلق على بيوت غير الكويتين، وتذهب للمدراس المسائية المُخصصة للاجئين التي تعمل بها طواقم فلسطينية، فتشتبك مع أحاديث التلاميذ آنذاك عن معركة الكرامة 1968 التي تتذكر وقعها عليها في هذا الوقت: "بدأت إشعاعات من الأمل تدخل نفوسنا، مع تسرّب أحلام بأنّ هناك إمكانية للعودة لبيوتنا في الوطن. ‫اشتعلنا حماسًا وبدأ كل واحد منا يحكي عمَّا سمع عن شجاعة الفدائيين الفلسطينيين، واتحادهم مع الجيش الأردني لطرد الجيش الإسرائيلي من قرية الكرامة".

ظلّت المسافة بين البطلة في بلد اللجوء الجديد، وبين متابعتها للقضية في بلادها، تُضاعف لديها النزوع إلى النضال، يتراءى لها الفدائيون الفلسطينيون وكأنهم "ملائكة بأجنحة مضيئة" وهم يواجهون الدبابات الإسرائيلية بصدور عارية ويصدونها عن مسارها.

ظلّت تحلم بأن تصبح فدائية، تتذكر وعد والدها لها بالذهاب إلى معسكر تدريبي، وسط محاولاتها الانخراط في أية أنشطة داعمة لقضية التحرير الفلسطينية في الكويت، واندماجها في مجتمع المهاجرين الفلسطينيين، الذين بدوا لها أكثر ميلًا للانعزال عن المجتمع الكويتي والتقوقع في مجتمع فلسطيني خاص بهم، يتمسكون بعاداتهم وتقاليدهم وكأنهم "نقلوا القدس ونابلس وطولكرم وجِنِين وسلفيت إلى الكويت، تمسكوا بطقوس أعراسهم وأحزانهم وأكلهم وأغانيهم؛ لأنهم رأوا أنها طريق العودة"، كما تقول.

تظغى المشهدية البصرية على أسلوب سرد "ليالي بدر" لا سيما في وصف التاريخ العائلي، ونوستالجيا الأماكن، والطقوس الشعبية الفلسطينية، وأزمات البطلة في حياتها الشخصية مع الأب، وتورطها في الزواج المُبكر فيما بعد، وهو ما يمكن ربطه بتاريخ الكاتبة في مجال الإخراج وكتابة السيناريو لسنوات طويلة، ومن أبرز أفلامها: "الطريق إلى فلسطين"، و"مفتاح الحكايا"، و"نريد لما كوكب".

"من منا يحمل الآخر في قلبه؟ فلسطين أم أنا؟"، سؤال تُسجله ليالي بدر في كلمة لها بعد نهاية روايتها، فيما تبدو الكتابة في حد ذاتها، تفتيشًا جوهريًا عن إجابة هذا السؤال المؤرِق.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن