في ظل الظروف السياسية التي طرأت على العديد من الدول العربية في العقدين الماضيين، تعرّض النسق الاجتماعي العام لهزات شديدة، وهو الأمر الذي انعكس بطريقة مباشرة على النظم التعليمية في تلك البلاد.
كلما تراجع المشروع الوطني تدهورت المنظومة التعليمية
في مصر ارتبط التعليم الحديث منذ نشأته في عهد محمد علي (1805- 1848) ارتباطًا وثيقًا بالأهداف الاجتماعية والتي تلخصت في "تأسيس دولة حديثة قوية تستطيع التصدي للأطماع الاستعمارية"، وفي زمن الخديوي إسماعيل (1863- 1879) أصبح من أهم أهداف التعليم "تحقيق الحداثة" تحت شعار "جعل مصر قطعة من أوروبا"، وعلى الرغم من سقوط البلاد تحت نير الاحتلال البريطاني (1882 – 1922) الذي سعى لتقييد التعليم وقصره على الطبقات القادرة، إلا أنه ومع ذلك استهدف النظام التعليمي في مصر بتلك الفترة تحقيق "المواطنة وتعزيز حكم الديمقراطية والدستور"، أما في ظل ثورة يوليو (1952-1970) فقد استهدف النظام الجمهوري أن يساعد التعليم في تحقيق "التنمية المستقلة ومواجهة كافة أشكال الاستعمار".
ولا شك أنّ التعليم في تلك المراحل لعب أعظم الأدوار في تنمية المجتمع في ضوء الدور المطلوب منه ونجح إلى حد كبير في تحقيق الأهداف الوطنية المختلفة عبر مراحل تطوّره الطويل.
ومع بداية سبيعينات القرن الماضي عمل الرئيس الراحل أنور السادات، على تفكيك النظام الناصري بأبعاده الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، وهكذا انتهى المشروع الوطني الذي ظل التعليم الحديث أحد أولوياته وإن اختلفت الأهداف. رفع السادات شعار الانفتاح الاقتصادي، والتقارب مع الغرب بديلًا عن التخطيط المركزي على أسس اشتراكية وتحالف قوى الشعب العامل، وهو ما انعكس على التعليم بشكل مباشر، فتراجع الإنفاق عليه مما أدى إلى قلة كفاءة العملية التعليمة في المدارس التي زادت كثافة الطلاب فيها بشكل ملحوظ، فتفاقمت مشكلة الدروس الخصوصية، وعرفت المدارس نظام التدريس على فترتين، حيث يقسم اليوم الدراسي بين مدرستين مختلفتين.
وإزاء تلك المشكلات سعت فئات التكنوقراط التي عادت من دول الخليج إلى نقل تجربة المدارس الخاصة التي تتمتع بتدريس أكثر كفاءة وباللغات الأجنبية لكنها بمصروفات لا يقدر عليها سوى طبقات بعينها، وكانت تلك المدارس إلى جانب المعاهد الأزهرية التي انتشرت وزادت أعداد طلابها بما يدرسوه من مناهج عتيقة عفا عليها الزمن أول معول هدم لهدف "الإعداد للمواطنة" وهو من أهم أهداف التعليم المصرى منذ نشأته، ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد بل تمكنت قوى الضغط من فتح باب مدارس القنصليات الأجنبية أمام المواطنين المصريين، وأعقبها تأسيس العديد من المدارس الأجنبية الدولية مما مثّل معول هدم إضافيًا لهدف "المواطنة والانتماء والتجانس الاجتماعي" في التعليم المصري.
لم يختلف ما حدث في التعليم العام عما حدث في التعليم الجامعي والعالي، فقد راحت المعاهد العليا الخاصة تتزايد حتى نجحت ضغوط رجال المال من الفوز بقانون يسمح بإنشاء أربع جامعات خاصة تحت مسمى الجامعات الأهلية (قانون 101 لسنة 1992)، وفي سنة 2009 تم تعديله ليسمح بإنشاء مزيد من الجامعات الخاصة بل والأجنبية بحيث أصبح عدد الجامعات المصرية 92 جامعة، بواقع 28 جامعة حكومية و27 جامعة خاصة و4 جامعات أهلية دولية و12 جامعة أهلية منبثقة من الجامعات الحكومية، وأخير 7 أفرع للجامعات الأجنبية، بالإضافة لعدد من المعاهد ذات الطبيعة الخاصة، ليبلغ إجمالي عدد طلاب التعليم العالي بمصر نحو 3.7 مليون طالب وطالبة، يمثّل طلاب الجامعات الحكومية والأزهرية بنحو 66.5 % منهم.
مع الفساد الذي تفشى داخل المنظومة التعليمية قررت دول كثيرة عدم الاعتراف بشهادات الدراسات العليا المصرية
ولأنّ مصروفات التعليم صارت تتراوح من عدة عشرات جنيهات في التعليم العام والأزهري إلى مئات الآلاف من الجنيهات بالمدارس الدولية، فقد النظام التعليمي بوصلته الوطنية في ظل غياب مشروع وطني جامع، ومع هذه الطبقية الحادة وتقتير الحكومات المتعاقبة على المدارس العامة، تدهورت كفاءة التعليم وتراجع مستوى خريجيه، وهو ما انعكس سلبًا بالتأكيد على مستوى طلاب وخريجي الجامعة، بل وعلى مستوى الحاصلين على الماجستير والدكتوراه من الجامعات المصرية التى تمدها المدارس الحكومية العامة بمعظم طلابها.
ومع العديد من أشكال الفساد الذي تفشى داخل المنظومة التعليمية فضلًا عن حالة التدهور العام ونقص التمويل، قررت دول كثيرة عدم الاعتراف بشهادات الدراسات العليا المصرية -ماجستير ودكتوراه -، وبعضها ذهب إلى عمل اختبارات خاصة للتأكد من استحقاق حامل الشهادة، للدرجة التعليمية التي يحملها.
وكان من نتيجة غياب أي مشروع وطني للتنمية، وغياب أي معنى للتخطيط الاقتصادي، أن أصبحت البطالة متفشية بين ملايين الشباب، إذ بلغت نسبة البطالة تبعًا لتقرير الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء نحو 7% من قوة العمل الرسمية يبلغ عدد الحاصلين على مؤهلات عالية ومتوسطة منهم أكثر من 80% منهم، بينما يرى كثير من الباحثين الاقتصاديين أنّ هذه نسبة مضلّلة وغير حقيقية وخاصة فى ضوء السياسات الاقتصادية الراهنة.
(خاص "عروبة 22")