المجريات الراهنة تشير إلى أنّ نظام البشير القديم والثورة المبتسرة عليه والواقعة عام ٢٠١٨ هما في أعلى مراحل المواجهة السياسية، ذلك أنّ الجبهة القومية الإسلامية المرجعية التاريخية للبشير سياسيًا باتت مقاومة بأعلى درجات الوضوح، وأيضًا التحدي لأية محاولة للاقتراب من مائدة تفاوض تساهم في وقف إطلاق النار كخطوة تمهيدية لاتفاق ينهي الحرب، وذلك على اعتبار أنّ ذلك يعطي الفرصة للمكوّن المدني أن يكون فاعلًا وممثلًا في المعادلات السياسية في اليوم التالي للحرب.
في هذا السياق أقدمت الجبهة عبر سيطرتها الراهنة على ما بقي من الدولة السودانية على إعلان أنّ معظم رموز المكوّن المدني السياسي وعلى رأسهم رئيس الوزراء السابق عبدلله حمدوك ووزيرة خارجيته مريم الصادق المهدي ضمن قائمة طويلة كمطلوبين أمام العدالة السودانية، وذلك باتهام سياسي ليس له مرجعية قانونية مستقلة ومتفق عليها.
سعي النظام القديم إلى سلطة مطلقة يقف أمامه لجان المقاومة الشبابية السودانية
هذا التطور يأتي في إطار سلسلة من الإزاحات التي تمت ممارستها في الإقاليم ضد رموز تحالف قوى الثورة السودانية، ويملك عدد من المؤشرات منها:
أولًا، قطع الطريق أمام انعقاد منبر جدة الذي تسعى إليه قوى دولية وإقليمية بمجهود من الولايات المتحدة الأمريكية، والمأمول انعقاده في أعقاب عيد الفطر المبارك طبقًا لما صرح به المبعوث الدولي للسودان توم بيريليو.
ثانيًا؛ محاولة إزاحة المشروع السياسي البديل لطموحات نظام البشير في العودة إلى السلطة مجددًا بشكل سافر عبر تكوين أذرع عسكرية ميليشياوية موالية للجيش في صراعه العسكري ضد قوات الدعم السريع.
ثالثًا؛ قطع الطريق أمام قائد الجيش الفريق أول عبد الفتاح البرهان نحو تفاهم مع المكوّن المدني (تقدم) الذي أعلن عن لقاء قريب مع البرهان لبلورة ملامح توافق سياسي ربما.
في المقابل فإنّ سعي النظام القديم إلى سلطة مطلقة في السودان بعد أن ضعضع بدائله السياسية يقف أمامه لجان المقاومة الشبابية السودانية والمنتمية إلى المشروع الثوري والتي تملك وجودًا ميدانيًا على الأرض بنوعين من المجهود، أولهما إنساني إغاثي للأهالي المكلومين بسبب الحرب المستمرة على مدى عام، والثاني يتجه نحو امتلاك فاعلية عسكرية إدراكًا لطبيعة دور الجبهة القومية الإسلامية ومطامعها في كامل السلطة من ناحية، وسعيًا وراء حماية المدنيين في أماكن تواجدهم من ناحية أخرى.
في هذا السياق قد تكون الإشكالية الموازية في مستويات التعقيد هي حالة المؤسسة العسكرية السودانية الرسمية التي تتحالف بأشكال متنوعة مع الفصائل والتكوينات المسلحة غير الرسمية، وتمارس تسليحًا للمدنيين حتى النساء، وقد يكون الأخطر من هذه التحالفات هي المناهج المطروحة والمتناقضة للأسف من جانب قيادات الجيش في التعامل مع هذه الفصائل على تنوعها حيث تم طرح رؤيتين من جانب قيادتين مركزيتين هما شمس الدين الكباشي نائب قائد الجيش، وياسر العطا مساعد القائد العام للقوات المسلحة السودانية.
طرح الكباشي يحمل رسالة أساسية هي ضرورة أن يكون هذا التحالف مع المدنيين أو الفصائل المسلحة أيًا ما كانت ضمن الأطر المنظمة للمؤسسة الرسمية وطبقًا لمنظوماتها وهياكلها، بينما عبّر ياسر العطا عن انحياز مطلق وغير مؤطر لتسليح المدنيين حيث يمارس الرجل دوريًا تحريضًا واضحًا على المكون المدني بتكوينه الأبرز تحالف (تقدم).
المشهد السوداني مفتوح على سيناريوهات متعددة وترجيح أحدها مغامرة غير محسوبة
وفي ضوء تعقيد المشهد السوداني فإنّ الخطابين المتناقضين من القيادات العسكرية لهما في تقديرنا تفسيران. الأول؛ أنّ هناك تناقضًا فعليًا في المؤسسة العسكرية السودانية يسفر ربما عن مستويات من التفكيك لها في مراحل لاحقة، أما الثاني؛ فهو ممارسة لعبة تبادل الأدوار تتم فيها مخاطبة القوى السياسية السودانية المتناحرة. فالعطا يطمئن الإسلامويين أنّ تحالفهم مع الجيش مستمر ومركزي وأنّ مقعدهم محجوز في أية معادلات سياسية مستقبلية طبقًا لمجهوداتهم الحربية، بينما الخطاب الثاني يمارس نوعًا من الطمأنة لقطاعات في الجيش السوداني غير المؤدلجين، وكذلك للأطر الإقليمية والدولية بأنّ مؤسسة القوات المسلحة السودانية تعمل وفق المناهج العسكرية المتداولة والمتعارف عليها وهي الانضباط وامتلاك القدرة على إدارة المشهدين العسكري والسياسي المعقد في السودان.
مجمل المعطيات السابقة تجعل المشهد السوداني كعادته مفتوحًا على سيناريوهات متعددة، وأحيانًا يكون ترجيح أحد هذه السيناريوهات من باب المغامرة غير المحسوبة، وذلك في حالة الرمال المتحركة التي نشهدها وتجعلنا نتابع تطوراتها الدرامية ككابوس لم نكن نتمنى أن يمرّ بنا فنكون شهودًا على حالة هدم منظّم لبلد كنا نعدّه أحد مرتكزات التطور الاقتصادي لكل من العرب والأفارقة.
(خاص "عروبة 22")