ولأنّ حل القضية السورية عبر تطبيق القرار 2254، لم يحصل ولم تنجح أي جهود لفتح مسار لحل آخر، فقد بقي نظام الأسد قائمًا رغم أنه لا يملك إلا قليلًا من عوامل تعطيه إمكانية البقاء والاستمرار، أبرزها استمرار الصراع السوري، وهو نهج تبناه النظام منذ بداية الأحداث السورية عام 2011، وأضافت إليه قوى إقليمية ودولية من خلال تدخلاتها بُعدًا آخر، فجعلته صراعًا إقليميًا - دوليًا الى جانب بُعده الداخلي، وكلاهما حاضر وملموس سواء في وجود قوى تعبّر عنه مباشرة، أو قوى وكيلة تقوم بدور أطراف إقليمية ودولية في سوريا.
إنّ التبسيط في واقع الصراع السوري، يبدو في وجود كيانات الأمر الواقع، أولها مناطق سيطرة نظام الأسد في الساحل، وخط الوسط السوري ما بين حلب في الشمال ودرعا في الجنوب، والثانية مناطق الإدارة الذاتية في شمال شرق سوريا، والثالثة منطقة السيطرة التركية في شمال غرب البلاد، التي تديرها حكومتان، الحكومة المؤقتة التابعة للائتلاف، وحكومة الإنقاذ التابعة لـ"هيئة تحرير الشام" ذات الصلة مع "القاعدة".
التدخلات السياسية والأمنية والعسكرية بعضها مباشر وبعضها يتم بالوكالة
ويتجاوز الواقع السوري فكرة التبسيط الظاهر في امور أساسية، أولها يتصل بالخرق القائم في الخرائط السياسية لكيانات الأمر الواقع، وأبرز قوى الخرق يمثّله تنظيم "داعش" الذي كشفت الوقائع وإعلانات سلطات الأمر الواقع وحلفائها عن وجوده ونشاطاته في المناطق الثلاث وخاصة منطقة تلاقيها المشترك على حدود البادية السورية في وسط وشرق جنوب البلاد، ويمتد خرق خرائط كيانات الأمر الواقع إلى وجود قوى محلية لها اختلافات واعتراضات مع سلطات المناطق التي تتواجد فيها، والأمر واضح في مناطق الإدارة الذاتية في اختلاف الأكثرية العربية مع الإدارة ذات الأكثرية الكردية، وملحوظ في مناطق السيطرة التركية من صراعات ومناكفات الحكومة المؤقتة المدعومة من الجيش الوطني وحكومة "الإنقاذ" التي تدعمها مليشيات "هيئة تحرير الشام"، ولا تمنع السيطرة الغاشمة لنظام الأسد من اختلافات وتعارضات بين قوى وأجهزة داخل النظام، وقد تكاثرت في الفترة الأخيرة، وتجلت في صدامات مسلّحة حدثت في ريف حمص الغربي، ويتوالى حدوثها في درعا.
والأمر الثاني في تجاوز فكرة التبسيط، يتصل بالقوى المتدخلة في الملف السوري، واصطفافاتها إلى جانب كل واحد من كيانات الأمر الواقع، حيث روسيا وإيران في مناطق سيطرة نظام الأسد، وتركيا في منطقة شمال غرب سوريا، والولايات المتحدة في مناطق الإدارة الذاتية، لكن التدخلات الواقعية تبدو أكثر بكثير وفي الكيانات جميعًا، وتضم قائمة المتدخلين منظمات وهيئات وتحالفات ودولًا وجماعات ومنظمات، تبدأ من الأمم المتحدة ووكالاتها المتخصصة، وتشمل تحالفين دوليين، أولهما التحالف الدولي للحرب على الإرهاب والثاني تحالف دول "أستانا"، وفيهما عشرات من دول العالم بما فيها دول إسلامية وعربية، إضافة إلى منظمات سياسية وجمعيات حقوقية وإنسانية، مضافة إلى جماعات وعصابات إرهابية مسلحة، بينها ميليشيات شيعية أبرزها "حزب الله" اللبناني، فضلًا عن "داعش" و"القاعدة" و"فاغنر" و"PKK"، مما جعل المشهد السوري وسط تدخلات غير مسبوقة.
إنّ خطورة التدخلات تكمن في شموليّتها وتنوّعها وتناقضها وفي أهدافها وأدواتها، ويكفي للدلالة على خطورتها قول، إنها لم تقتصر في مساعيها للتأثير على الواقع السوري، بل طالت العلاقات البينية للقوى المتدخلة في المستويات المختلفة، وكانت تزاوج بين الأشكال العلنية للتدخل والتدخلات السرية، وجرت تدخلاتها في مسارات مختلفة، اختلطت فيها وتجاورت التدخلات السياسية والأمنية والعسكرية، وكان بعضها مباشرًا، وبعضها يتم بالوكالة، وثمة أمثلة تكشف نماذج من التدخلات السوداء في سوريا منها دفع "فاغنر" الروسية للمجيء إلى سوريا لقاء المال للقيام بعمليات قذرة ضد السوريين وأطراف أخرى، لا تتجرأ القوات الروسية على القيام بها، رغم أنّ الأخيرة دمّرت مدنًا وقرى، وقتلت وجرحت عشرات آلاف الناس أغلبهم من النساء والأطفال، وفي مثال آخر دفعت دولة عربية لطرف محلي مبلغ مائة مليون دولار لفتح معركة عسكرية مع طرف ثالث.
وثمة حقيقة، تؤكدها التدخلات الخارجية في سوريا، وهي أنّ وجود جماعات القتل والإرهاب الوظيفية من "داعش" وأخواتها ومثيلاتها في سوريا وعملياتها الإجرامية، جرى تمويلها من متدخلين متوافقين ومختلفين في بعض الأحيان، وهو ما تؤكده إشارة سريعة إلى أنّ أموالًا عربية وأوروبية، قبضتها جماعات إرهابية في تسويات معينة، وتم دفع أموال من شركات أوروبية لجماعات إرهابية لقاء خدمات وبضائع منها النفط، وجرى بيع مواد مقيّدة وممنوعة لنظام الأسد، قام باستخدامها في قتل المدنيين.
توفّر تمويل كبير متنوّع ومستمر تتشارك فيه أطراف كثيرة ومختلفة
بقي أن نتوقف عند النقطة الأهم في الاختلاف بين المشهد المبسط وتعقيداته في الواقع الحالي، وهي تمويل الصراع الذي يحتاج إلى مزيد من الحديث عن محتوياته وبعض تفاصيل فيه، لأن ذلك يساهم في كشف الأسباب التي جعلت الصراع السوري دمويًا ومدمّرًا ومستمرًا رغم مرور وقت طويل على بدايته، وكلها صفات ما كان للصراع أن يأخذها ويوصف بها، إلا من خلال توفر تمويل كبير متنوّع ومستمر، تتشارك فيه أطراف كثيرة ومختلفة، ولولا ذلك لكان الصراع توقف، أو على الأقل تبدلت طبيعته، وجرى اختصار بعض زمنه.
إنّ تمويل الصراع في سوريا وحولها، يتجاوز تكاليف وجود وعمليات القوى المقاتلة النظامية المشاركة من الأطراف الداخلية والخارجية إلى تكاليف الميليشيات والتنظيمات المسلحة المتصلة بالمشاركين والمتدخلين فيه، بل إنّ دعم بيئة الصراع ومنها الإعلام التعبوي والمساعدات والخدمات المقيّدة والأنشطة السياسية المكمّلة، التي تمنع انهيار أدوات الصراع، وتبقيها مستمرة، أمر يقع في صلب عملية تمويل الصراع الذي تحوّل إلى صراع شامل بمستويات متعددة بعد أن بدأ صراعًا محليًا، وتطورت عمليات تمويله بشكل موازٍ، تشاركت فيها الأطراف ذات الصلة.
وتكشف مجريات عمليات التمويل، أنّ القسم الأساسي يأتي من عدة مصادر:
أوّلها الدول الغربية وتتقدمها الولايات المتحدة، ويتبعها الاتحاد الأوروبي، حيث يتشاركون في تمويل المساعدات الانسانية، وتموّل الأولى قواتها الموجودة في سوريا وحلفاءها المحليين من قوات "قسد" التابعة للإدارة الذاتية وأطراف آخرين، ويركز الاتحاد الأوروبي إلى جانب مجالات أخرى على تمويل موضوع اللاجئين وتوطينهم.
المجموعة الثانية من الممولين، تقدّم تمويلًا متعددًا ومباشرًا في سوريا، وتغطي روسيا تكلفة وجود قواعدها البحرية والجوية وقواتها في سوريا، وتقدّم دعمًا عسكريًا واستخباريًا ومساعدات للنظام، وتموّل تشكيلات عسكرية تشرف عليها أبرزها "الفيلق الخامس"، وتدعم وتساند تحالف "أستانا" مع إيران وتركيا وفصائل من التشكيلات المسلحة القريبة من الأتراك، وتشارك إيران في المجموعة نفسها، وهي أكبر مموّلي الصراع، حيث تغطي تكاليف مالها من قواعد وقوات واستخبارات كثيفة الوجود في سوريا، وتموّل عشرات المليشيات التابعة لها الوافدة والمحلية، وتصرف على مشاريع التشييع والتجنيد وشراء الولاءات من كل لون ومستوى، وتقدّم الإعانات للنظام لمنعه من الانهيار باستثناء ما تقوم به من مشاريع "اقتصادية واجتماعية وثقافية" لتعزيز سيطرتها على سوريا. والطرف الثالث في المجموعة، يتألف من بعض البلدان العربية وتركيا، وتقدّم الأولى علنًا مساعدات إلى تشكيلات سياسية ومسلحة في المعارضة، وبعضها يقدّم مساعدات غير معلنة لنظام الأسد مباشرة أو بصورة غير مباشرة، وتساهم تركيا في تمويل قواتها وأجهزتها الأمنية في شمال سوريا إضافة إلى الدعم السياسي والرعاية التي تقدّمها للمعارضة الرسمية، وتتولى الإشراف على مناطق شمال غرب سوريا التي تدير قسمًا منها الحكومة المؤقتة وقسمًا آخر تديره حكومة "الإنقاذ".
المجموعة الثالثة من مموّلي الصراع، تضمّ أطرافًا تلعب دورًا محدودًا وهامشيًا نتيجة ضعف ومحدودية ما تقدّمه لتمويل الصراع، وفي المجموعة كثير من الدول والجماعات والجمعيات المدنية والسياسية، التي تقدّم مساعدات محدودة في مجال ما، أو تموّل مشاريع معينة، وينتمي الانتشار السوري في الشتات إلى هذه المجموعة، حيث يرسل إعانات للسوريين في الداخل وفي مناطق الانتشار الصعبة في لبنان والأردن، ويقدّم تبرعات لجهات عامة.
التمويل بالطرق والمحتوى السائدين هو الأهم في عوامل استمرار الصراع السوري
المجموعة الرابعة والأخيرة، تضم أطرافًا سورية أو "جماعات تعمل في سوريا" هي جزء من تنظيمات خارجية، وتقوم بدور مزدوج في تمويل الصراع. إذ تتلقى إعانات وتمويلًا من جهات خارجية، وتقوم بإعادة تدويره، لتوفير مصادر جديدة في تمويل الصراع السوري، والأمثلة الأكثر تعبيرًا عن هذا النموذج، تمثله سلطات الأمر الواقع والتشكيلات المسلحة، التي تتلقى تمويلات، فتقدّم بعضها مباشرة أو عبر خدمات توزّعها على هياكلها وحواضنها وأجهزتها، ثم تقوم عبر أدواتها بالحصول على أموال وخدمات متعددة، تموّل وتدعم دورها في الصراع وخاصة عبر المال الذي تحصل عليه من الضرائب والأتاوات والفساد، وعبر أنشطة إجرامية بينها زراعة وتصنيع وترويج المخدرات، وأشهرها "الكبتاغون".
إنّ تمويل الصراع بالطرق والمحتوى السائدين، هو الأهم في عوامل استمرار الصراع السوري، لأنه يجعل المشاركين في التمويل والحائزين عليه بغض النظر عن مواقفهم المعلنة، مستفيدين من استمرار الصراع إلى حد قبول الأمر الواقع والدفاع عنه، ويجعلهم أبعد عن مساعي وضع حد للصراع والذهاب إلى حل في سوريا، وحدهم ضحايا الصراع هم الأكثر خسارة في استمراره.
(خاص "عروبة 22")