بصمات

احتكار الحقيقة

آفـاتٌ ثـلاث تـفـتِـك بالمجتمعات والثّـقـافـات، سـواءٌ اجـتمـعتْ هـي إلى بعـضـها أو تـفـرّقـت. يتّـسـع نطـاقُ فَـتْـكِـها فيشمـل مياديـن السّياسـة والاقـتصـاد والـثّـقافـة، ويَـجْـمَـعها دورانُـها على فاعليـّـةٍ واحـدةٍ مـدمّـرة: الاحـتكـار.

احتكار الحقيقة

الآفـاتُ الثّـلاث تلك هـي: احـتكار السّـلطـة؛ واحتـكار الثّـروة؛ واحتـكار الحقيـقـة. لا حاجـة بنا إلى القـول إنّ فـعْـل الاحـتـكار في هـذه الحالات جميـعًا مُـفْـضِ بالمجتـمـع، لا محـالة، إلى حـالٍ من التّـأزّم تأخـذ أشـكالًا عـدّة، وقـد يتـولّـد من مفعـولها الضّـاغـط - عند درجـةٍ عليا من استـفحاله - ما لا حصْـر له من المشكلات التي تـعتـاص على التّـذليل. وما أكثـر الحالات المجـتـمعيّـة والتّـاريخيّـة التي امـتـنع فيها على جماعـةٍ وطـنيّـة أو قـوميّـة جَـبْـهَ معـضلاتها التي تـناسـلت مـن آفـةٍ مـن هـذه الآفـات أو منـها جميعًا؛ ذلك أنّ هـذه الضّـروب من الاحتـكار لا تـفـتح بابًا أمـام ارتيـاد أيِّ أفـق، بـل هي لا تـقـتـرح على المجتمعات التي تـقـع فيها سـوى المنـتـهى المعلـوم: الأفـق المُـنْـسَـدّ.

يقود الاستيلاء على رأسمال ما إلى الاستيلاء على غيره

يَـعْـنيـنا مـن هـذه الآفـات الثّـلاث، في سياقـنـا الذي نحـن فيه، تسليـطُ الضّـوء على دورٍ هيـمنويّ يعـود إلى واحـدة منها بالـذّات، هي ثـالثـتُـها: احتكـار الحـقـيقة؛ وهي من أشـدّ الآفات نَـخْـرًا لجسـم الثّـقافـة وإتـلافًا لكـيانها. والغالبُ على هذا الاحتكار الاستـواءُ قاعـدةً لأنـواعٍ أخرى منه مـن قبيـل ما ألمـحـنا إليه؛ إذِ القابـضُ على عُـنُـق الحـقيـقة وزاعـمُـها لا يمنـع نفسَـه مـن زعْـم استـحقـاقـه حُكْـمَ النّـاس والتّـسلُّـطَ عـليهم، واستحـقـاقـِـه النّـظيـر حيازةَ أسباب السّـلطـان من ثـروة، أو الانـتـهاءِ إلى هـدف الاسـتيـلاء على الثّـروة من بـاب السّلطـان. قـد يَـزْعُـم محتـكـرُ الحـقيـقة ذلك لنفسـه بـما هـو فـردٌ، وقد يزعمها لعصبـيّـته وحـزبِـه إنْ كان محـضَ لسـانٍ لأحـدٍ منـهما أو لكـليْـهـما.

الأَعْـنَـى بالتّـفـكُّـر، في هـذا المضمـار، هـو نـمـطُ هـذه العـلاقة من التّـمـفـصُـل بين فاعليّـات الاحتـكار الثّـلاث حيث يقـود الاستـيلاء على رأسمـالٍ مّـا (السّلطـة، الثّـروة، المعـرفة) إلى الاستيـلاء على غيره أو، أقـلًّا، إلى تيسيـر الجَـهْـد المطلـوبِ إنـفـاقُـه من أجـل ذلك الاستـيلاء. قـد يَـنـجح احتـكـارُ مجـالٍ - بمـقـتضى ذلك التّـمفـصُل - في تعبيد الطّريق أمام شـدِّ الرّحـال إلى احتـكارٍ آخر، وقـد تكون البُـغْيـةُ جـزيلـةَ العـوائـد إنْ صِيـرَ إلى تحـقيـق الاحتـكـار الكـليّ والشّـامل، بحيث يكـون محتـكـرُ المجالات الثّـلاثـة واحـدٌ أَحَـد، وقـد تـنـقسم حيازتُـها جمـيعـها إلى أنصـبـةٍ ثـلاثـة وأقـانيـمَ ثـلاثة، لكنّ الذي لا مِـرْيـةَ فيه أنّ استـقـلال الأَحْـكار الثّـلاثـة عن بعـضـها ليس يَـنْـزع عـن قُـواها فـعْـلَ التّـضامـن البـيْـنيّ الذي يُـغْـدِق فيـه الاحتـكـارُ الواحـدُ الامتـيازَ على غـيره فـتكـون بـه الإفادةُ المتبادَلـة.

احتكار الحقيقة وجْهٌ ثانٍ لإبطال حقّ الآخرين في الكلام من خارج معطيات تلك الحقيقة

نـصـادف في مجرى الاجتـماع المـدنيّ والثّـقـافيّ، باستمرار، صُـورًا مختـلفة للتّـعبيـر عن هذا المعتـقـد المزعـوم: حيازة الحـقيـقة و، بالتّـالي، أنماطًا من السّـعي الحثيـث إلى احتـكارها. نصـادف ذلك في مـزاعـم المـثـقّـفين وتيّـاراتهم الفـكريّـة؛ وفي ادّعاءات "رجال الـدّين" وألسنة الطّـوائـف والمـذاهـب؛ وفي تـنـطُّـعات صغار الكَـتَـبَـة والمشايـخ والأمـراء من الجماعات الـدّيـنيّـة - الحـزبيّـة (أو الحِـزبْـدِيـنـيّـة... بالأحـرى)... إلخ. خطـابٌ واحـد يجـري على ألسنـتـهـم وأقـلامـهـم بمـفـرداتٍ مـخـتـلفـة: الحـقيـقةُ واحـدةٌ، وأنـا المُـؤتَـمَـن عليها وليس من حقيـقـةٍ غـير ما أقـول، ومَـن يـزعُـم غيـرها يـتـكلّـم بالباطـل و، بالتّـالي، لا حـقّ له في الكـلام والقـول. هـذا منطـقُ المـتـكلِّـم وحـده، الذي لا مـتـكلِّـم سـواه، يـردِّد نـفـسَه باسم الـفـكـر، والفلـسـفة، والـدّيـن، والأدب والـفـنّ... ومـفرداتها. وما أغـنانـا عن القـول إنّ احتـكـار الحـقيـقة وجْـهٌ ثـانٍ لإبـطـال حـقّ الآخـرين في الكـلام من خـارج معطيـات تلك الحـقيـقة. هـا هـنا ليس للكـلام، للكـتابة، للتّـفـكير سوى سبيـل واحـدة وحيـدة: اجتـرار ما تقـضي به تلك الحقـيقـة.

ادّعـاءُ حيـازة الحـقيـقة والتّـنـزُّلُ منـزلـةَ محـتـكِـرِها، القَـيِّـمِ عليها، هـو التّـرجمـةُ المعاصـرة لـفـكرة "الفـرقـة النّاجيّـة" في الوعـي الإسلامـيّ الـقـديم! كلاهـما يقـود إلى فـتـنـة: اجتماعيّـة كانت أو ثـقـافـيّـة. والمشكـلـةُ أنّ الجميـع يـزعُـم لـنفـسه امتـلاك الحـقيـقة ويسعـى في احتـكارها، على مـنوال زعْـم قـدمـائـنـا انـتـماءَهـم إلى "الفـرقـة النّـاجيّـة"! هـكذا يُـبيـح هـؤلاء لأنفسـهم - مثـلما أبـاح أولئـك لأنفسهم - حسبـانَ غيـرهم ضالّـيـن أو مـارقيـن أو منحـرفيـن عن جـادّة الحـقّ. وعليـنا أن نـتـخـيّـل، إذن، ما الذي يسـتـتْـبع هـذا الاعـتـقـاد من أفـعـالٍ تجـاه مخـالفـيـهم!

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن