ما أريد أن أناقش هنا هو أين الموقف العقلاني من ما يحدث في الساحة من صراع، أولًا داخلي في بعض البلدان العربية، وثانيًا خارجي بين العرب أو بعضهم وإسرائيل وبين إيران وإسرائيل، أين تكمن الحقيقة وكيف نحسبها؟ وهي في كل الأحوال نسبية.
لعلّ بعض النقاط الحاكمة يمكن أن تبيّن الموضوع بشكل أوضح.
أولًا: إنّ كل العرب أو قُل معظمهم مع القضية الفلسطينية، وهذا طبيعي جدًا، لأنهم يشتركون في تاريخ واحد ولغة واحدة وجغرافية واحدة، عدا أنّ أي عاقل يعرف أنه قد وقع على الفلسطينيين ظلم بيّن، ولا زال هذا الظلم قائمًا بسبب المشروع الصهيوني.
ثانيًا: عداء النظام الإيراني للولايات المتحدة، وكذلك ما يعتبره امتدادًا لها، أي إسرائيل، أيضًا واضح منذ الانقلاب على حكم الشاه، وربما كانت قطاعات من الشعب الإيراني حتى قبل سقوط الشاه، تتعاطف مع القضية الفلسطينية كونها قضية إسلامية وإنسانية.
ثالثًا: أولًا وثانيًا يجسّدان حقيقة لا جدال فيها أو عليها، ما هو مختلَف عليه أنه بعد إرسال مجموعة من المسيّرات والصواريخ من إيران إلى إسرائيل قابل بعض العرب الأمر بشيء من الفتور، وكان ذلك الفتور محط نقد بعض الإعلام الإيراني، فمن وجهة نظره أنّ العدو واحد، فلماذا هذا الفتور بل وحتى النفور؟.
رابعًا: السردية الإيرانية ربما لا تريد أن تعترف، وربما بعض القيادات تعرف، أنّ ذلك الفتور نابع من عدد من العناصر، والتي يتجاهلها النظام الإيراني أو لا يقبل النقاش فيها.
الفرق بين الاحتلال والاحتلال هو فرق في الدرجة وليس في النوع
ففلسطين محتلّة من الصهيونية، ولدى كثير من العرب قناعة بأنّ إيران تحتل أربع عواصم عربية، والفرق بين الاحتلال والاحتلال، هو فرق في الدرجة وليس في النوع، وتتحجج إيران أنها في سوريا بدعوة من نظامها، حتى إذا أخذنا بتلك الحجة، على صعوبتها، فهي في لبنان ليست مدعوّة من النظام اللبناني الرسمي، ولا هي مدعوّة في اليمن من النظام اليمني الرسمي وأيضًا في العراق!
خامسًا: وجود إيران بنفوذها وتأثيرها في تلك العواصم أورث الكثير من التصدّع في تلك الدول، فهناك حروب أهلية في اليمن وسوريا، وفرقة وانشقاق في لبنان، وصراع له مظهر الطائفية في العراق، بل وتتدخل إيران في أكثر من مكان، تارة باسم التاريخ القديم، كما يقول حسين أمير عبد اللهيان، في كتابه (صبح الشام) منشور بالعربية في بيروت إنّ شاه إيران ارتكب جريمة باعترافه باستقلال البحرين (وقد خدم عبد اللهيان نفسه كسفير في البحرين في وقت سابق، وهو على عكس اسمه، فاللهيان بالعربية تعني المتساهل وليس المتشدد).
وجود تلك الهيمنة على بعض العرب، وفكرة السيطرة والقيادة على المنطقة، بحجج مختلفة هو الذي سبّب النفور، فلا يوجد احتلال مخالف لاحتلال، أي مصادرة الرغبة الوطنية، وتمكين فريق على فريق في الوطن الواحد، ومدّه بالمال والسلاح، هو متشابه في العمق وليس مختلفًا من حيث مدلول الاحتلال ونتائجه.
سادسًا: حتى لو أخذنا بفكرة معاداة الاحتلال الصهيوني، وأنّ إيران رأس حربة في ما يُعرف بـ"محور المقاومة"، ولها ذراع ضارب في لبنان ومسلّح (كما يُقال بأفضل الأسلحة) وحدود مشتركة، فلماذا بعد سبعة أشهر من القتل الجماعي في غزّة لم تفتح تلك الترسانة على مصراعيها ويتدفق ما عُرف منذ أربع عقود باسم "فيلق القدس" إلى الحدود الشمالية للكيان وتسجيل أضرار فادحة في داخله؟، إذا اعتبرنا أنّ السكة مفتوحة من إيران إلى الجنوب اللبناني من خلال العراق وسوريا اللتين بهما نفوذ إيراني لا يُنكر، مع الاعتراف بـ"تقاعس" بقيّة العرب، فهم لم يدّعوا أنهم "محور المقاومة" لا من قريب ولا من بعيد.
لو لم تكن إيران تفرض نفوذها على العواصم الأربع وتجهر بأهمية التوسّع في المنطقة، ثم اشتبكت مع إسرائيل، لكان لها موقع مختلف تمامًا عمّا هو اليوم، ولكانت قطاعات واسعة من العرب قد صفّقت لها وناصرتها، بل وحاربت معها وحمت مصالحها.
احتلال أربع عواصم عربية وكتم أنفاس مواطنيها بالسلاح هو إضعاف للقضية بل مقدّمة لتصفيتها
سابعًا: من خلال الاشتباك الأخير بين إيران وإسرائيل وما ظهر من معلومات، فإنّ الجانبين ليس لديهما النيّة لحرب طويلة وصعبة، والتصريحات بين يدي القارئ (إن كان يزن الأمور بميزان العدل) تقول إنّ العملية كانت كما يقول المثال الغربي (Tit for Tat) أي أنها عملية محدودة، ربما استفادت منها إسرائيل أكثر مما كسبت منها القضية.
تلك جملة الأسباب للفتور الذي قابلت به جماهير عربية وازنة ذلك الاشتباك، فهي ترى أنّ سوريا متعافية، ولبنان نشط وحر وديمقراطي، دون سلاح لأحد الفرقاء موجّه إلى رأسه، ومعطّل لاقتصاده، ويمن حيوي محكوم بكل الأطياف اليمنية، وعراق حر، كل ذلك إضافة إلى القضية الفلسطينية. أما احتلال أربع عواصم عربية وكتم أنفاس مواطنيها بالسلاح، فهو إضعاف للقضية، بل مقدّمة لتصفيتها.
(خاص "عروبة 22")