وسط غبار العربدة الإسرائيلية في المنطقة وتوسع جغرافيتها ونتائجها القاسية، يمكن بجلاء تبيّن أننا إزاء سيناريو أكبر من تداعيات ما بدأ في السابع من أكتوبر/ تشرين الأول 2023، اليوم الذي انطلقت فيه موجة جديدة من العنف في المنطقة التهم جهوداً سبقته لإرساء قواعد للاستقرار والتعايش وتوسيع دائرة التعاون بين مكوناتها تحقيقاً لمصالح شعوبها.
الشرارة جاءت من غزة، وتباينت أهداف الطرفين الأساسيين في المواجهة: "حماس" وإسرائيل، فالحركة والمدافعون عنها لا يزالون يرون فيما فعلته في السابع من أكتوبر إحياء للقضية الفلسطينية، ولو على جثث الآلاف من أصحابها، بينما تشبّث الجانب الإسرائيلي بمسعاه لتحقيق أهداف عدة من الحرب كان أقربها استعادة الرهائن من "حماس"، وأقصاها القضاء عليها وإخراجها كلياً من معادلة الإدارة في القطاع.
الآن، عادت القضية الفلسطينية إلى الساحة الدولية، لكن بخسائر لا يمكن حصرها ومرشحة للتضاعف ولا تصوّر كلفة تعويضها، ولم تستعد إسرائيل كل رهائنها، ولا يزال لـ"حماس" موضع قدم في حكم غزة، أو ما تبقى من بشرها وحجرها.
وبجانب ذلك كله، وصلت إسرائيل إلى درجة من الجنون المستبيح للمنطقة واستقرارها، والمضحّي بكل صيغ التفاهم والاستقرار السابقة أو التي كانت مأمولة. لا تتحسب إسرائيل لتحركاتها ولا تخشى خسائر علاقاتها داخل المنطقة، إنما توسّع نطاق عربدتها من ساحة عربية إلى أخرى بلا حدود غير، فأهدافها أضحت أكبر وأهم من "حماس"، وأوسع وأبعد من غزة التي تدفع الثمن الأكبر من وهم "وحدة الساحات" الذي رافق بدايات الحرب في القطاع وروّج له تيار بعينه متوعداً إسرائيل بالهزيمة.
الساحات التي شاع أنها توحدت في مواجهة إسرائيل، تبددت وتغيرت رموزها ومعالمها مع تطورات الحرب التي بدأت في غزة، وقيل إن ذلك سيعيد العقلية الإسرائيلية إلى بعض الصواب، لكنّ شهيتها انفتحت مع التطورات في سوريا، فتمددت في أراضيها، وتنصلت من اتفاقات تحكم وجودها في لبنان بحجة المواجهة مع "حزب الله"، مستفيدة من صمت أمريكي، أو ضوء أخضر، أو تنسيق في قناعة الكثيرين، تزداد حدود عربدة إسرائيل في المنطقة إلى أبعد من ادعاء حماية وجودها وتأمين حدودها، فتصعّد في لبنان وتكرر غاراتها وسط صمت دولي، وتتوغل في سوريا مستفيدة من ثغرات فترة التحول.
وبينما تتكفل الولايات المتحدة بالحوثيين في اليمن، تبدو هادئة في ردود فعلها على الأفعال الإسرائيلية في المنطقة، وتعتمد على صيغ المبعوثين والتحركات الدبلوماسية، وهي لا تليق بخطورة ما يجري. إن كل ذلك يوحي بما هو أبعد من هذه الساحات، وأن ترتيبات كبرى في المنطقة تخطط لها الولايات المتحدة وإسرائيل وتدفعان إلى فرضها تحت النيران الإسرائيلية التي تستهدف أكثر من اتجاه. وللأسف أن غزة لم تكن فقط منطلق هذه الترتيبات وضحيتها الأولى، بل هي الآن الخاسر الأكبر بما تقدمه من تضحيات تكاد تمحو وجودها وسط عجز دولي لا يغتفر.
(الخليج الإماراتية)