بصمات

الناس.. ورسم الحدود للفعل!

سعيد علي نجدي

المشاركة

حاضرُنا باهت، لأننا فقدنا الحماس، لا قضية لنا، نعيش اللامبالاة حدّ فقدان الرغبة في أن نرغب بالتفكير، وبالتالي تحوّلنا إلى أناس من دون نكهة، نعيش من دون تفاعل، لا نتأثّر ولا نؤثّر، نعيش مع الأحداث بخفة، لا يحرّكنا ولا يصدمنا ولا يفاجئنا أي طارئ، إزاء هذا هل نحن في حالة موت رمزي، بمعنى فقدان الثقة بالعالم، حتى أصبحنا بلا طاقة، لدرجة نكون ولا نكون، نعيش بين الآفاق من دون أفق، في منزلة تجمّد بين منزلتين، وسمة هذا العيش هو العادي، لأننا لا ندشّن في العلاقة مع هذا العالم أي معنى جديد، يعود ذلك إلى أننا نولد مع الخسارة، ربما لأنّ طعم الحياة سُرق منا، من المهد إلى اللحد.

الناس.. ورسم الحدود للفعل!

الشعب العربي يحرق رساميله الرمزيه، ولكن من دون نتيجة وهذا أصعب، لأنه يكون بشكل مجاني وهذا يعود إلى غياب البديل، والخلفية المرجعية لنموذج معيّن، يبدو أننا إلى اليوم لم نخرج من عقدة الاستعمار، لأنّ إسرائيل هي التذكير الدائم لهذا، وزاد من ذلك استبداد النخب الداخلية، لهذا تحوّلنا إلى شعوب من دون فعل لأننا فقدنا الأمل بالتغيير، وأصبحنا نعرف بشكل مسبق كل النتائج بأنّ فعلنا من دون جدوى وهذا ما أكدته انتفاضات الشعوب في الربيع العربي، إزاء عقبات التغيير التي تعيق كل فعل.

طالما لم يتم الصراع داخل المؤسسة لتتحوّل شرعية مقابل أخرى لن نرى بواكير تحوّل

لم تُستكمل آليات تفكيك مفهوم السلطة من خلال مفهوم الولاية والحاكمية، الذي دشّنه علي عبد الرازق ومحمد عبده، ومحمد مهدي شمس الدين، لأنّ الناس ما تزال بنسبة كبيرة تأخذ شرعية الفعل من داخل المؤسسة، وطالما لم يتم الصراع داخل المؤسسة لتتحوّل شرعية مقابل أخرى لن نرى بواكير تحوّل، وهو ما أشار إليه علي شريعتي بمفهوم دين ضد دين، أي دين التحرّر والناس، مقابل دين السلطة الذي يغطي النخب الحاكمة ويعطيها شرعية وأبعادًا رمزية من خلال مفهوم الولاية والطاعة للحاكم، وهنا نكون أمام فهم ضد فهم، أو عقل ضد عقل، وهذا العقل يجب ملاحظته بمعناه الابستمولوجي لتفكيك منابع الاستبداد من خلال آليات إشتغاله.

منهج ضد منهج

إنّ الإشكالية الأهم اليوم على صعيد العلوم الاجتماعية هي ما يخص إنتاج المفاهيم والنظريات التي تقف على عتبة الفهم المجتمعي، خصوصًا أننا تعاملنا مع العلوم الاجتماعية بشكل إسقاطي على الأنساق التي نقوم بملاحظتها، وهنا نكون أمام إشكالية أيّهما يسبق هل النظرية تسبق الحقل، أم أنّ الحقل هو الذي يحدد ما يمكن إستخدامه؟ وهنا نكون أمام عمليات إبداع للمفاهيم، بمعنى الخروج من المفاهيم المسبقة بشكل جاهز والتي تعمل على إعاقة المعرفة المجتمعية، ونكون أمام سؤال مهم: ما هي الأطر التي تُمكّن الباحث من توليد النظريات التي تخص السياق المجتمعي الذي ندرس، هل نحن بحاجة إلى نوع من أنواع الحرية؟ لأننا نعرف أنّ العلوم الاجتماعية بحاجة إلى توفير البيئة التي تتيح للباحث أن يشتغل بغض النظر إن كان ذلك سوف يطال حقل السلطة، لذلك يدخل الباحث في أحيان كثيرة بعملية تواطؤ، ولهذا يختار نموذجًا من نماذج القول النظري والتي تمارس بشكل مشوّه.

إلا أنّ النظريات لا يمكن بحال من الأحوال أن تكون كونية على صعيد التفسير، فمثلًا هوبز كتب عن الدولة بعد مخاض المجتمعات والحروب التي عاشتها، كذلك هيغل كتب إنطلاقًا من واقع ألمانيا التي عانت من موضوع توحيد الدولة، وكذلك ماركس كتب في مجال له خصوصياته من بنى الانتاج التي تملك وسائل مغايرة، من هنا يجب أن لا تسقط النظرية على سياق مغاير تكون فيه الدولة ذات أبعاد أخرى.

وهذا ما عطّل إلى حد كبير العقل الابداعي في ما يخص العلوم الاجتماعية العربية، وتحوّل معها العقل إلى عقل قياسي، كل باحث يقيس من إطاره المرجعي للنموذج الذي يعتمده، فالكثير ما يزال يقارب المواضيع من خلال المدارس الرئيسية والتي ما عادت إلى حد كبير قادرة على تفسير التحوّلات التي تشهدها المجتمعات، خصوصًا أننا اليوم أمام عتبات كبيرة من التطور التكنولوجي وأنماط مغايرة من التفكير.

المجتمع العربي له خصوصياته إنطلاقًا من ما يستبطنه من مفاهيم داخل الأطر المعرفية التي يتشرّبها

من هنا، إلى أي حد نحن بحاجة إلى إطلاق ديناميات بحثية وتوفير المستلزمات لها، إنطلاقًا من الميدان الذي نشتغل عليه والذي يعطينا الأدوات من خلال العلاقة الحيّة مع الموضوع، حتى نصل إلى عملية فهم للنسق المجتمعي الذي نعمل عليه، من خلال أنماط التفكير المتعددة والتحوّلات التي شهدتها مجتمعاتنا، والأهم العلاقة مع الدولة، حتى نستطيع إنتاج نظريات مفسّرة تخص المجتمع العربي والذي هو بطبيعة الحال نسق كغيره له خصوصياته، إنطلاقًا من ما يستبطنه من مفاهيم داخل الأطر المعرفية التي يتشرّبها، تأخذ بعين الإعتبار السياسات التدبيرية للسلطة لنرى إن كانت تواكب التحوّلات الفكرية عند الناس، وثانيًا ملاحظة الفعل المجتمعي إن كان ما يزال بحدود المنزلة بين منزلتين، بمعنى إن كان فعلًا معلّقًا بسبب العقبات، وثالثًا وضع الإصبع على جرح العقلية الباحثة إن كانت ما تزال تتعاطى مع الموضوع بعقلية المكاسرة المعرفية وإزاحة الآخر بشكل مسبق.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن