حملت الأم قِنينة الماء، وتشبثت طفلتها بدُميتها الوحيدة التي استطاعت إنقاذها من المجزرة، واتكأت العجوز على عصاها بخطوات وئيدة لعلها تصل للبيت، فيما حملت سيدة قططها كأطفال رُضّع "سأعود مع كل بِسَسي إلى غزّة"، فالأمومة في فلسطين أسلوب حياة.

ما أن ذاعت، قبل فترة، أخبار بالسماح للنساء والأطفال دون الـ16 عامًا والرجال الذين تجاوزوا الخمسين بالعودة لشمال قطاع غزّة حتى امتلأ طريق الرشيد الساحلي على آخره مُحتشدًا بالآلاف، وكالعادة، "لم يعرفوا أنّ الطريق إلى الطريق دم ومصيدة" كما يقول محمود درويش، فسرعان ما نفت إسرائيل الخبر، وفرّقتهم بالغاز والدخان والنيران، ليسقط شهداء جُدد على جسر النزوح، من بينهم طفلة وسيدتان على أقل تقدير.

رصدت الكاميرات حشود النازحين في ذلك اليوم في طريق العودة لشمال غزّة، سائرين بأملٍ خالي الوفاض، فالعودة لبؤرة الحرب وأنقاض بيوتهم أحب إليهم من هذا النزوح، كما يقول لسان حالهم الجماعي.

واجه رجل ستيني عدسة "بي بي سي" العربية في طريق الرشيد المؤدي لغزّة، وقال بلهجة يملؤها التسليم: "إحنا ميتين ميتين، إما ميتين في القصف، إما ميتين من الجوع والبهدلة والتشريد"، ويتابع: "إذا كان هذا موت بطيء، فلنمُت على السريع أحسن"، فيما تهرول شابة أملًا في أن تعود لتبني "خيمة" فوق الأنقاض، وتُردد جارتها "مشتاقين للدار" وتبكي، وتبدو السيّدة التي تحمل قططها، وكأنها تتشبث بآخر الناجين من أهل بيتها، في مونولوجات غزاويّة لا يمكن أن تصدر عن أي شعب آخر على وجه الأرض، شعب يتشبث بالحياة بكل سبيل، وهو يُدرك تمامًا أنه رهن "الإبادة".

حسب وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا)، فإنّ أكثر من مليون شخص نزحوا بما يعادل أكثر من 75% من سكان القطاع إلى الآن، وما أن تواترت أنباء عن تمكّن عدة أشخاص من عبور نقطة تفتيش مغلقة باتجاه مدينة غزّة شمالي القطاع، حتى بدأ النزوح المعاكس بالآلاف من الجنوب باتجاه الشمال عبر الطريق الساحلي، متكدسين سيرًا على الأقدام، وفوق عربات تجرّها الحمير، حتى نفى الجيش الإسرائيلي الأنباء المتداولة بالسماح بالعودة إلى شمال قطاع غزة، باعتبار أنها لا زالت "منطقة حرب".

وحسب آخر تصريحات مفوّض الأونروا فيليب لازاريني، فإنّ إسرائيل قد حوّلت غزة إلى منطقة "غير مُحددة الملامح" منذ بداية الحرب عليها في أكتوبر/تشرين الأول الماضي، وسط تعسّف ورفض لطلبات الوكالة لإرسال المساعدات إلى شمال القطاع في تجويع ممنهج للسكان، واستخدمت منظمة "هيومن رايتس ووتش" قبل أيام تعبير "مضاعفات التجويع" وهي تُفيد بأنّ الأطفال في غزّة يموتون بسبب تلك المضاعفات، مؤكدةً أنّ الحكومة الإسرائيلية تستخدم التجويع كسلاح حرب.. ضمن سجل جرائمها المُكدس، وللمفارقة، أن يتسيّد مشهد هُزال وتضوّر الأطفال في غزّة جوعًا مع تزامن "يوم الطفل الفلسطيني" الذي حلّ مطلع أبريل/ نيسان الجاري، ولا زالت "غزة بتنشوي" بتعبير الشاعر المصري الراحل عبد الرحمن الأبنودي.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن