كانت الليلة ليلة مشهودة لا شك، وكانت الأعين خلالها حائرة تتابع وتشاهد، وكانت حيرتها بين هجوم إيراني يجري على الهواء فوق الشاشات، وبين رد إسرائيلي مرتقب وقتها أو بعدها لا يعرف أحد ما هي حدوده. وفي الحالتين بدت المنطقة محشورة بين مشروعين يتناوشان على أطرافها وفي داخلها، المشروع الإيراني على الحدود الشرقية لمنطقتنا، بينما الإسرائيلي في القلب منها، وكلاهما كان ولا يزال يلعب في أرض العرب ويمرح.
قوّة المشروع الإيراني قائمة على غياب المشروع العربي والمشروع الإسرائيلي يكتسب قوّته من تداعي الأجواء العربية
وليست هذه هي المرة الأولى التي تبدو فيها المنطقة أشد ما تكون إلى مشروعها العربي الخاص بها، ولكنها المرة الأولى التي يتبدى فيها أنّ غياب مثل هذا المشروع يؤدي إلى فراغ بهذا الشكل، وأنّ الفراغ لا يظلّ فراغًا، وأنّ قوانين الطبيعة تقول إنّ ملء أي فراغ على الفور من بين قواعدها الثابتة، وأنه لا فارق بين الطبيعة والسياسة في هذا الموضوع.
إنني على يقين من أنّ قوة المشروع الإيراني في المنطقة، ليست قوة فيه في حد ذاته، ولكنها قوة قائمة على ضعف المشروع العربي في المقابل، وإذا شئنا قلنا غيابه لا ضعفه، ولا فارق في الحقيقة بين ضعفه وبين غيابه، لأنّ الضعف والغياب سواء من حيث الأثر على الأرض.
وما يُقال عن المشروع الإيراني في هذا الشأن يُقال عن المشروع الاسرائيلي، الذي لا يكتسب قوّته من ذاته هو الآخر، وإنما يحصل عليها من تداعي الأجواء العربية من حوله، وربما لهذا السبب نفهم لماذا تعمل تل أبيب على إضعاف المنطقة من حولها أولًا بأول، ولماذا تنشغل طول الوقت بأن يكون العرب في حالة من البؤس والتعاسة.
في بدايات ثورة ٢٣ يوليو ١٩٥٢ كان وزير بريطاني قد زار القاهرة والتقى جمال عبد الناصر، ثم غادرها إلى تل أبيب حيث التقى ديڤيد بن جوريون، أول رئيس وزراء للدولة العبرية.
وما إن بدأ اللقاء في تل أبيب حتى بادر الوزير البريطاني بالقول إنه يحمل خبرًا سارًا من القاهرة، والخبر هو أنّ عبد الناصر ليس منشغلًا بحرب ولا بصراع مع إسرائيل، لأنه منشغل بمشروعه الوطني الخاص في بلاده.
وما نفهمه من الكُتُب السياسية التي روت الواقعة، أنّ بن جوريون قد اعتدل في جلسته وانتبه كمن أفاق على شيء لم يكن يتوقعه، ثم قال للوزير القادم من القاهرة إنّ هذا الخبر ربما يكون أسوأ خبر يسمعه، وإنه ليس خبرًا سارًا ولا يحزنون كما قد يتصوّر حامله. هكذا راح أول رئيس حكومة في إسرائيل يصارح الرجل الذي تخيّل أنه جاء يزف إليه بشرى سارة، وهكذا تكشف لنا الواقعة عن حقيقة ما تفكر فيه إسرائيل تجاه المنطقة من حولها.
بالطبع كان الوزير البريطاني يعرف هذا بينه وبين نفسه، لأنّ إسرائيل ليست سوى فكرة بريطانية في الحقيقة، ولأنّ الوعد البريطاني الشهير الصادر في ١٩١٧ هو الذي زرعها هنا بيننا، وبالتالي، فالإنجليز يعرفون تمامًا ما بدا يومها وكأنه مفاجأة لم يتوقعها وزيرهم في أثناء الزيارة.
ولأنّ بن جوريون كان أول رئيس حكومة في مكانه، فإنه كان يؤسّس لما بعده، وكان يرى صراحةً وبغير مواربة أنّ انشغال القاهرة بمشروع وطني قضية تظل تقلقه، فما بالك إذا كان المشروع مشروعًا عربيًا جامعًا على مستوى عواصم العرب، لا على مستوى عاصمة واحدة من بينها؟.
لم يمنعنا أحد من أن يكون لنا مشروعنا الذي يمثّل قدرتنا على أن نحمي مصالحنا من كل مشروع منافس طامح أو طامع
إنّ الإيراني لا يُلام على أنّ له مشروعه السياسي الذي يتحرك على أساسه في المنطقة، ولا الإسرائيلي يُلام هو الآخر على أنّ له مشروعًا مماثلًا ومبكرًا من أيام بن جوريون، ولا حتى التركي يُلام على شيء شبيه لديه، ولكننا نحن العرب الذين يجب أن نُلام، لأنّ أحدًا من هذه الأطراف الثلاثة لم يمنعنا من أن يكون لنا مشروعنا الخاص الذي يمثّلنا ويمثّل طموحنا ومستقبلنا ووجودنا، والأهم يمثّل قدرتنا على أن نحمي مصالحنا من كل مشروع منافس طامح أو طامع.
لا جديد في الحديث عن مدى حاجتنا إلى مشروع قومي عربي جامع، فما أكثر ما قيل في الموضوع من قبل، ولكن الجديد هو في مشهد التناطح بين المشروعين الإيراني والإسرائيلي ليلة الهجوم، فكلاهما لم يكن ليجد مجالًا لذلك في حضور المشروع العربي، وكلاهما لم يكن ليجد ساحة يتحرك فيها، لو امتلأت هذه الساحة بمشروعها الخاص الذي يخرج من أرضها.
أهم ما قاله مشهد الثالث عشر من الشهر، إنّ مشروعنا العربي ليس نوعًا من الترف، لأنه يتعلق بقضية وجود في الأساس، وإذا كانت قمة البحرين العربية على مرمى حجر منا، فليس أفضل منها منصةً لإطلاق مثل هذا المشروع.
وحتى لا نكون مثاليين بأكثر من اللازم، فإنّ منصّتها يمكن أن تكون خطوة أولى نحو هذا المشروع، لأنه مشروع لا ينشأ ولا يتبلور بين يوم وليلة، ولكنه يتشكّل كما يتشكّل الجنين في بطن أمه، ثم يمر بالمراحل التي يمر بها الوليد الى أن يصير في طور القوة والرجولة.
(خاص "عروبة 22")