وصرّح الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في مارس الماضي أنّ بلاده بصدد إتمام "الطوق" لتأمين حدودها مع العراق، كما صرّح وزير الدفاع التركي يشار جولر في أعقاب ذلك بأنّ بلاده مُصّرة على إنشاء حزام أمني يتراوح عمقه ما بين ٣٠ إلى ٤٠ كيلومترًا على الحدود مع سوريا، وهذا هدف قديم لم يتوقّف المسؤولون الأتراك عن المطالبة به.
وذهبَ بعض المصادر إلى احتمال إقامة حزام أمني مماثل على الحدود مع العراق وبالعمق المرجو نفسه على الحدود السورية، كما ذهب البعض الآخر إلى احتمال مشاركة قوات عراقية سواء من الجيش أو من الحشد الشعبي في إسناد الهجوم البّري التركي المرتقب ضد حزب العمال الكردستاني.
تركيا هي المستفيد الأكبر من بنود الصفقة مع العراق بأبعادها الأمنية والاقتصادية
أما الشيء المؤكد فهو أنّ تخلّص تركيا من التهديد المزمن الذي تسببه لها هجمات حزب العمال الكردستاني انطلاقًا من الأراضي العراقية، سيكون جزءًا من صفقة أكبر تشمل سماح تركيا بإطلاقات أكبر للمياه من نهرَي دجلة والفرات، وتنفيذ مشروع طريق التنمية الذي يربط ميناء الفاو العراقي على الخليج العربي بالأسواق الأوروبية عبر الأراضي التركية من خلال شبكة من الطرق والسكك الحديدية.
عندما نتأمل في بنود هذه الصفقة بأبعادها الأمنية والاقتصادية، نجد أنّ المستفيد الأكبر منها هو تركيا، ففي الحدّ الأدنى سيكون هناك تعاون أمني بينها وبين العراق لملاحقة عناصر حزب العمال الكردستاني وتضييق الخناق عليهم، وفي الحدّ الأقصى - الذي نرجو ألا يتحقّق - سيتّم إنشاء منطقة عازلة بعمق ما بين ٣٠ و٤٠ كيلومترًا داخل الأراضي العراقية.
المهم أنّ تركيا في الحالتين سوف تتخلّص من، أو تقلّص بشكل كبير، خطر حزب العمال الكردستاني. ومعلوم أنّ تركيا كانت قد دأبَت طوال السنوات الماضية على تأكيد حقها في التوغّل داخل الأراضي العراقية لمهاجمة عناصر حزب العمال الكردستاني، واستندت في ذلك إلى الاتفاقية التي تم توقيعها مع طه ياسين رمضان نائب الرئيس العراقي السابق صدّام حسين، وظلّ العراق منذ عام ٢٠٠٣ ينازعها هذا الحق على أساس أنه تم محو كل ميراث صدام حسين بالكامل فما بال اتفاقه مع تركيا فقط هو الذي يصمد ولا تطوله الممحاة؟، وبالتالي فإنّ التنسيق الأمني مع العراق بخصوص هذه المسألة سوف يحقّق لتركيا ما تريد.
من جهة أخرى، صحيح أنّ العراق مثله في ذلك مثل سوريا يعاني من شّح المياه إلى الحدّ الذي بات ينعكس بالسلب على استقراره السياسي ويتسبّب في خروج المظاهرات الاحتجاجية في شهور الصيف، ما يعني أنّ زيادة حصته السنوية من المياه سوف يمثّل مكسبًا كبيرًا بالنسبة إليه، لكن من دون أن يكون التفاهم على هذه الزيادة مرتبطًا باتفاق قانوني ملزم للجانب التركي فإنّ الأمر سيظّل مرهونًا بالإرادة السياسية للقيادة التركية تمنح حين تريد وتمنع وقت تشاء.
ولا ننسى أنّ تركيا ماضية منذ تسعينيات القرن الماضي في إقامة سلسلة من السدود الكبيرة على نهرَي دجلة والفرات كجزء من مشروع شرق الأناضول الضخم الذي يهدف إلى توفير المياه والطاقة لكل مكان في تركيا.
أما فيما يخصّ طريق التنمية، وهو مشروع كبير طويل المدى ويتكوّن من عدّة مراحل، فإنه يربط ليس فقط بين أطرافه (العراق-تركيا-أوروبا) لكن كذلك بين الدول الخليجية وبين أوروبا، وبالتالي فإنّ هذا المشروع يمثّل فرصة كي يتحوّل العراق إلى محطّة مهمة لتدفّق البضائع وحركة التجارة، كما أنّ تركيا بالتأكيد ستستفيد منه كمعبر لأوروبا.
تبقى الملاحظة الأهم وهي أنه في كل ما نُشر من أخبار عن التطوّرات الإيجابية في العلاقات العراقية-التركية لم ترد أي إشارة إلى انسحاب القوات التركية المتمركزة في معسكر بعشيقة شمال العراق منذ عام ٢٠١٥.
شدّة الاختراق لوطننا العربي بلغت المستوى الذي وصلت إليه بسبب أننا نتعامل فرادى مع تحدياتنا الخارجية
ونُذكّر هنا بأنه عندما دعا رئيس الوزراء العراقي الأسبق حيدر العبّادي لانسحاب هذه القوات ردّ عليه الرئيس التركي ردّا بالغ الفظاظة جوهره ألا حق للعراق في طلب الانسحاب. أكثر من ذلك صرّح أردوغان عام ٢٠١٦ في أثناء مؤتمر القانون الدولي المنعقد باسطنبول قائلًا باللهجة الاستعلائية نفسها: "إنّ الموصل تاريخيًا لنا".
وبالتالي فنحن إزاء حالة احتلال لأرض عربية من دولة لها فيها أطماع تاريخية معروفة، وكون تركيا تتفّق مذهبيًا مع الغالبية الساحقة للمسلمين العرب فإنّ هذا لا ينزع عن تمركزها على أرض العراق صفة الاحتلال.
نعرف أنّ وطننا العربي كان مُعرّضًا دائمًا للاختراق من القوى الخارجية، أكانت هذه القوى دولية أم إقليمية، لكن شدّة الاختراق لم تبلغ في أي مرحلة من مراحلها ذلك المستوى الذي وصلَت إليه في أيامنا هذه، والسبب في ذلك أننا كدول عربية نتعامل فرادى مع تحدياتنا الخارجية كما أننا مثقلون بصراعاتنا البينية وحروبنا الداخلية المدمّرة.
(خاص "عروبة 22")