في مطلع عام 1993، تحدث مبارك عن تواجد سفن عسكرية إيرانية في ميناء بورتسودان، وكان واضحا في تهديده للرئيس السوداني السابق عمر البشير، قائلًا: "لو عملت قاعدة إيرانية في بورتسودان هضربك ومش هسمحلك ولا أنت ولا غيرك".
لكن الآن، وبعد عقود على تهديد مبارك، عادت إيران للسودان مجددًا، عبر طائراتها المُسيّرة لمساعدة الجيش السوداني بقيادة الفريق عبد الفتاح البرهان، ما أدى إلى تحويل مجرى الصراع الحالي لصالحه، ضد قوات "الدعم السريع" بقيادة غريمه محمد حمدان دقلو "حميدتي".
الجيش السوادني الذي حصل على طائرات بدون طيار إيرانية الصنع تمكن من تحقيق تقدّم عسكري لافت ضد قوات حميدتي، ووقف تقدمها واستعادة الأراضي حول العاصمة السودانية الخرطوم، في تقدّم ميداني وصف بأنه الأكثر أهمية للجيش منذ بداية القتال العام الماضي.
وبحسب تقرير لوكالة "رويترز"، تم نقل طائرات مُسيّرة إيرانية من طراز "مهاجر" و"أبابيل"، تصنعها شركات تعمل تحت إشراف وزارة الدفاع الإيرانية، إلى السودان عدة مرات منذ نهاية العام الماضي عن طريق "قشم فارس إير" الجوية الإيرانية.
وتظهر سجلات تتبع الرحلات، قيام طائرة (بوينج 747-200) التجارية التابعة لـ"قشم فارس إير" بـ6 رحلات، من إيران إلى قاعدة بورتسودان، في الفترة ما بين نهاية العام الماضي ومطلع العام الجاري.
السلاح في خدمة السياسة
ويبدو أخيرًا، أنّ إيران نجحت في الحصول على موطئ قدم في ممر تجاري بالغ الأهمية، بالقرب من اليمن والسعودية وإسرائيل، ما يؤهل البحرية الإيرانية المتواجدة في البحر الأحمر منذ سنوات، في نهاية المطاف إلى الهيمنة على قاعدة بحرية في المياه الاستراتيجية للسودان الذي تمتد حدوده البحرية لنحو 670 كيلومترًا.
المبعوث الأمريكي الخاص إلى السودان، توم بيريللو، الذي سجل مخاوفه من تحوّل الصراع السوداني إلى صراع إقليمي كشف عن اتصالات أمريكية مع إيران والإمارات مفادها أنّ "توفير الأسلحة لأي من طرفي النزاع من قبل أي دولة، يؤدي إلى تعميق الصراع وإطالة أمده".
من هذه الزاوية، يثير التدخل الإيراني في الأزمة السودانية قلق الولايات المتحدة، وهو ما جسّدته أيضًا السفيرة الأمريكية بالأمم المتحدة ليندا توماس جرينفيلد، عبر كشفها عن إجراء محادثات مباشرة مع الدول المتهمة بإذكاء الصراع بالسودان، وقالت: "دعَونا دول مثل إيران إلى عدم الانخراط في الحرب".
في السابق تحدثت تقارير أمريكية عن ضغوط مارستها إيران على السودان للسماح لها ببناء قاعدة بحرية دائمة على ساحل البحر الأحمر، وهو الأمر الذي كان سيسمح لطهران بمراقبة حركة المرور البحرية في البحر الأحمر.
لكن هذه اللهجة الأمريكية، ربما تعني بحسب البعض، لغة متعمّدة في وضع السودان كساحة معركة بالوكالة في المنطقة، بينما تستبدل واشنطن التركيز على التهديدات الإنسانية إلى المنافسات الجيوسياسية.
ومع تمدد النفوذ الإيراني، تبرز مخاوف أيضًا من تحويل الجيش السوداني إلى مجموعة ميليشيوية شبيهة بـ"الحشد الشعبي العراقي"، حيث يُعتبر معقل الجيش السوداني في شرق المنطقة الأكثر عرضة لخطر التمدد الإيراني.
ودحضت طهران معلومات عن طلبها من السودان السماح لها بإقامة قاعدة بحرية على ساحل البحر الأحمر دون جدوى، بينما أكد مندوب السودان في مجلس الأمن الحارث إدريس، أنّ إيران لا تلعب أي دور في الحرب السودانية الحالية، معتبرًا أنّ عودة العلاقات مع طهران لا تُشكل خطرًا على أمن إسرائيل. لكنه في المقابل، جدد إدانة السودان لأداء الإمارات حيال الحرب السودانية، مبيّنًا أنّ الاستخبارات السودانية رصدت مؤخرًا إمدادًا لمليشيا "الدعم السريع" في تشاد، يُقدّر بـ١٢٠٠ سيارة دفع رباعي في طريقها إلى السودان.
تحوّل العلاقات
القصّة لم تبدأ اليوم بل يعود عمرها إلى ثماني سنوات على الأقل، لكن مؤخرًا منحت إيران الجيش السوداني طائرات مقاتلة بدون طيار، في انحياز واضح إلى الجيش السوداني، في أتون حرب أهلية كارثية، ما يزيد وفقًا لرؤية غربية من المخاطر بالنسبة للسودان، كما يسلط الضوء على أهمية ساحل السودان على البحر الأحمر، حيث تتنافس عدة دول للوصول إليه.
واعتبر الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي، لدى اجتماعه بوزير الخارجية السوداني علي الصادق علي، أنّ رغبة السودان في إحياء العلاقات مع طهران، تشكل أساسًا لتعويض ما وصفه بـ"الفرص الضائعة" وخلق فرص جديدة.
عقب الإعلان عن تطبيع العلاقات بين الرياض وطهران، أعربت الحكومة السودانية عن رغبتها في تجديد العلاقات مع إيران بعد 7 سنوات من إعلان الرئيس السوداني السابق عمر البشير، قطعها على خلفية اقتحام سفارة السعودية في طهران.
ومثلت السنوات الثلاث الماضية، فرصة لعودة إيران إلى المشهد السوداني، حيث استغل "الحرس الثوري" الإيراني الحرب الأهلية السودانية لاستعادة موطئ قدم في شرق البلد العربي الأفريقي.
وفي تحوّل دراماتيكي غداة الهجوم الذي شنّته المقاومة الفلسطينية على إسرائيل في السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي، ناقشت إيران والسودان إعادة العلاقات الثنائية وتسريع خطوات إعادة فتح السفارات. ووصلت العلاقة الثنائية بين إيران والسودان إلى مرحلة النضج مع صعود "الحرس الثوري" داخل النظام السياسي الإيراني واتباعه إستراتيجية طموحة للنفوذ الإقليمي.
وبفضل "الربيع العربي" الذي اندلعت موجاته عام 2011، نمت العلاقات الإيرانية السودانية حيث لم يتردد القادة العسكريون في الخرطوم عام 2014، في تقديم الإيرانيين كأفضل حلفائهم في المنطقة.
وسبق لإسرئيل أن قصفت مطلع عام 2009، سلسلة من منشآت "الحرس الثوري" الإيراني على الأراضي السودانية، للاشتباه في أنها جزء من شبكة واسعة لنقل الأسلحة لحركة "حماس" الفلسطينية.
الموقف المصري من التمدد الإيراني في محيطها الإستراتيجي الجنوبي
وخلافًا للموقف الأمريكي القلق حيال التواجد العسكري الإيراني في السودان، كان لافتًا للانتباه أن تمتنع القاهرة عن انتقاده أو الإشارة إليه، ما طرح العديد من التساؤلات حول مدى ارتباط هذا الموقف بالتحسن المطرد والبطيء الذي تشهده العلاقات المصرية الإيرانية.
ورغم ذلك، استغلت مصر مشاركتها في مؤتمر باريس الدولي لدعم السودان، للمطالبة باتخاذ التدابير والإجراءات اللازمة لوقف الدعم العسكري المقدّم للأطراف السودانية المتحاربة.
وبينما يمثّل الدعم العسكري الإيراني للسـودان إنذارًا وضغطًا على القاهرة التي لا ترحّب بأي دور للمنافسين الإقليميين بجارها الجنوبي، فإنه يظهر أيضًا تباينات محتملة مع قادة الجيش السوداني على الرغم من احتمالية أن يكون دعم مصر للبرهان جزءًا من استراتيجية أوسع لمكافحة توسّع نفوذ إيران بالمنطقة.
وفي هذا الإطار، شدد الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي خلال اجتماعه الأخير مع البرهان بالقاهرة في فبراير/شباط الماضي، على حرص مصر على أمن السودان ومواصلة تقديم الدعم الكامل لتحقيق الاستقرار السياسي والأمني هناك.
وبحسب مسؤولين مصريين، تحدّثوا لـ"عروبة 22" فإنّ القاهرة أثارت خلف الأبواب المغلقة، الملف الإيراني، وحصلت على تأكيدات من الخرطوم، بأن لا نية للسودان لمنح إيران قاعدة بحرية.
ومع تحوّل السودان، إلى حرب بالوكالة، ومرور عام على اندلاع القتال بين القوات المسلحة السودانية وقوات "الدعم السريع"، لا يمكن التعويل كثيرًا على نوايا إيران التي تحاول استغلال كافة الفرص السانحة لبناء نفوذ في أفريقيا عبر السودان باعتباره مغنمًا كبيرًا.
فعبر محاولتها ضم السودان، لمحور المقاومة أو الممانعة، لم تقدّم طهران نفسها كوسيط، فيما مساعداتها غير المجانية للجيش السوداني تكشف عن رغبة أكيدة في تعزيز تواجدها العسكري من خلال قاعدة عسكرية تطل على البحر الأحمر، والجانب الأفريقي، ما يمنحها أيضًا موقعًا إستراتيجيًا يضعها في إطار القوى العالمية والإقليمية المتنافسة على المصالح والنفوذ.
(خاص "عروبة 22")