على أنّ تجربة تونس في هذا المجال ومقاربة علمائها وسياسيها تبدو متميّزة نسبيًا من عدة نواحٍ إذ تميّزت المقاربة التونسية التي صاغها خير الدين التونسي (1821-1890) في كتابه "أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك" بنوع من "الفرادة"، وذلك من خلال دعوته للاستفادة من منجزات أوروبا والاقتباس منها دون تقليد وفي حدود ما تسمح به الشريعة، مؤكدًا أنّ تحديث المجتمع الإسلامي لا يتعارض والشريعة الإسلامية.
الحركة الوطنية وظّفت الدين بمرونة دون تعصّب في خطابها السياسي وفي تعبئة الجماهير
كان خير الدين التونسي يقصد بالتحديث الإصلاح وإقامة المؤسّسات (التنظيمات) وتطوير التعليم وفهم العقيدة الدينية بما يخدم مستقبل الإنسان. وما ميّزه أيضًا عن غيره من المصلحين، في عهده، هو تجربته السياسية في الحكم (1873 ــ 1877) ومحاولة تجسيد بعض من أفكاره على الواقع من ذلك أنه قام بتنظيم الإدارة اعتمادًا على نخبة من المصلحين ممن تخرّجوا من المدرسة الحربية بباردو (1840)، كما أجرى إصلاحات واسعة على القضاء وتحديث التعليم وتأسيس المدرسة الصادقية (1875) التي اعتمدت مناهج حديثة (اللغات الأجنبية والعلوم العقلية...). ورغم عدم قدرة خير الدين التونسي على مواصلة تنفيذ برنامجه، لأسباب يطول شرحها، إلّا أن أفكاره ومبادئه وإنجازاته شكلت أرضية استندت إليها وعليها النخب التونسية اللاحقة.
في مرحلة الاستعمار الفرنسي للبلاد التونسية (1881-1956) لم يكن الدين بعيدًا عن السياسة أيضًا، فمن ناحية اعتبرته الحركة الوطنية (بمعناها الواسع) أحد أهم الأسُس التي تتشكل منها الهوية الحضارية للشعب التونسي (العروبة والإسلام) فدافعت عنه بـ"شراسة" أمام كل عمليات التشويه والتبخيس في الوقت الذي وظفته بتفاوت، بمرونة ودون تعصّب، في خطابها السياسي وفي تعبئة الجماهير من أجل القضية الوطنية بأبعادها المختلفة، فكان أول احتجاج سلمي مُنظّم في تونس سنة 1885 على خلفية دينية دفاعًا عن بعض العادات والقيم الإسلامية المتوارثة، بالإضافة إلى بعض المطالب ذات الطابع المادي والاقتصادي، التي حاول الاستعمار ترسيخها دون اعتبار لخصوصيات الشعب التونسي، وكانت تلك المطالب تتماشى ومستوى فهم النخبة الدينية آنذاك لطبيعة التحولات التي بدأ الاستعمار بإنجازها خِدمةً لمصالحه.
كما دافعت حركة الشباب التونسي (1907-1912) على الهوية العربية الإسلامية وتصدّت، عبر كتابة المقالات الصحفية، لكل محاولات التشويه التي تعرّضت لها بالإضافة لمساهمتها في بعض التحركات، ومنها مساندتها لإضراب طلبة الزيتونة سنة 1910 والتصدي لتجنيس التونسيين (1909-1910).
ورغم أنّ أغلب مؤسّسي الحزب الحر الدستوري التونسي هم من الزيتونيين، إلّا أنّ برنامج هذا الحزب لم يكن ذا طابع ديني، إذ كان الانضمام إليه يهم كل التونسيين مسلمين ويهودًا، بل خصّص المؤسّسون مناصب قيادية ليتولاها من يمثل الجماعات اليهودية التونسية (أمين المال على سبيل المثال).
كان الزيتونيون بمرجعيتهم الإسلامية، ومنهم الشيخ عبد العزيز الثعالبي والطاهر الحداد وغيرهما من بين أبرز العناصر التي أسّست هذا الحزب "الحديث" بفكره وسلوكه السياسي ومن أكثر العناصر انفتاحا وتحرّرًا وتقدّمًا على المستوى الفكري والسياسي، حيث ساهموا مع غيرهم في إنشاء الجمعيات الثقافية والاقتصادية والرياضية والموسيقية والمسرحية والصحف والمجلات والنقابات العمالية والحرفية.
كان الحبيب بورقيبة الذي يُعدّ من أكثر القيادات الدستورية "الجديدة" تشبّعًا بالثقافة الغربية الليبرالية الديمقراطية، على وعيٍ بدور الدين في المجتمع وبخصوصية المجتمع التونسي الخاضع كليًا للاستعمار الفرنسي الذي يتميز ببُعده الثقافي والحضاري، على خلاف الاستعمار الانجليزي مثلًا، لذلك كان من أكثر القيادات دفاعًا عن الهوية العربية الإسلامية للشعب التونسي، بل من أكثر الزعماء توظيفًا للدين الإسلامي في خطابه السياسي ونضاله الوطني، ولكن دون تعصّب، حتى إنّ أول مقال صحفي كتبه كان دفاعًا عن حجاب المرأة التونسية، أمّا أول ممارسة سياسية لبورقيبة فكانت المشاركة في مظاهرة ضد دفن أحد المتجنّسين في إحدى مقابر المنستير (اكتساب الجنسية الفرنسية مع الحفاظ على الدين الإسلامي).
الوطنيون التونسيون عقدوا مؤتمر الاستقلال سنة 1946 في ليلة القدر
كما قام الحزب الدستوري بفضح شيوخ الدين والأئمة وقضاة المجلس الشرعي الذين أباحوا التجنيس وتواطأوا مع السياسية الاستعمارية. وشاركت الصحف - التي كان يكتب فيها بورقيبة وجماعته كصوت التونسي والعمل التونسي - في التصدي لانعقاد المؤتمر الأفخارستي (تظاهرة مسيحية نظمتها الكنيسة بتونس سنة 1930) كما لم يتردّد بورقيبة، بغض النظر عن الدوافع الحقيقيّة لذلك، في افتتاح خطبه بالبسملة وإيراد بعض الآيات القرآنية وبعض الأحاديث النبوية الشريفة والاستشهاد بالتاريخ الإسلامي لحث السكان على المقاومة.
على خلفية الاعتزاز بدينهم الإسلامي، وظّف الوطنيون التونسيون الرموز الدينية في نضالهم الوطني، ومن ذلك أنّهم عقدوا مؤتمر الاستقلال سنة 1946 في ليلة القدر، وترأس الشيخ الفاضل بن عاشور المؤتمر التأسيسي للاتحاد العام التونسي للشغل، ولو أنّ توظيف الحركة الوطنية للجوامع والمساجد كان محدودًا جدًا، سواء في الجهات أو العاصمة باستثناء جامع الزيتونة.
(خاص "عروبة 22")