تشكّلت النواة الأولى من المدافعين عن العدالة وحقوق الإنسان وسط المعطيات السابقة، وكان في صلبها شخصيات معروفة، ولها تاريخ معروف ممتد عبر العقود الثلاثة الماضية في العمل الحقوقي، وشاركهم العمل ناشطون أكثرهم شباب ينتمون إلى تجارب متعددة موزّعين بين الداخل السوري وبلدان الشتات.
وقضى الناشطون الأوائل سنوات وجودهم الأولى في أوروبا حتى العام 2016 في مساعي فهم الواقع الحقوقي والقانوني الاوروبي المختلف جذريًا عما عرفوه وعايشوه في سوريا، ثم اتجهوا نحو توفير بيئة قانونية لمحاسبة مرتكبي الانتهاكات والجرائم ضد السوريين، قبل أن يتوجهوا نحو مساعدة الضحايا في الحصول على العدالة، ومساعدتهم القانونية في جلب المتهمين ومرتكبي الجرائم أمام القضاء، ومنذ العام 2017 أخذت ثمار جهودهم تتوالى في القبض على مرتكبين ومتهمين خدموا فيما سبق ضمن أجهزة النظام الأمنية والعسكرية ومليشياته أو كانوا عملاء لها، وتم تحويل بعضهم أمام المحاكم الأوروبية، التي جرى تطوير أهليتها لهذا النوع من المحاكمات، وقد انتشرت سريعًا في العديد من الدول الأوروبية، وأصدرت عددًا كبيرًا من أحكام قضائية ومذكرات اعتقال ضد عشرات من المرتكبين بينهم رئيس النظام بشار الأسد وشقيقه ماهر قائد "الفرقة الرابعة"، ورئيس "مكتب الأمن الوطني" السابق علي مملوك واثنين من وزراء الدفاع السابقين ومدير المخابرات الجوية جميل الحسن ومساعديه، والسلسلة طويلة.
في تجربة السنوات السورية السابقة ما يؤكد تسلّل عناصر أمنية أو عميلة للنظام إلى صفوف الناشطين وتشكيلات الثورة
ورغم أنّ هنات وعثرات واعتراضات رافقت مسار جهود الناشطين ومنظماتهم في أوروبا من أجل العدالة وحقوق السوريين، فإنّ ما تم أعطى أملًا لكثير من الضحايا بمحاسبة المجرمين، التي لا شك أنها حلقة مهمة في مسار الحل السوري، وهذا في جملة عوامل جعل الناشطين ومنظماتهم ونشاطاتهم في الصورة، التي تعكس نجاحات توازي انحسارات وتراجعات في جبهات الصراع السوري الأخرى، ودفعت إلى موجة تسعى إلى إعاقة تلك الجهود وإفشالها، وصولًا إلى وقفها إذا أمكن عبر شيطنة القائمين بها ومنظماتهم، والتشكيك بأهدافهم ونتائج جهودهم، والذهاب حد مقولات النظام عن مؤامرة دولية وارتهان الناشطين ومنظماتهم للخارج، وهذا بعض ما يظهر في النقاشات السورية الراهنة المشار إليها.
ومع أنّ المناقشات، تتم في فضاءات "الثورة والمعارضة" على وسائل التواصل الاجتماعي، فإنّ روائح وملامح ومواقف نظام الأسد تبدو ظاهرة وعلنية في بعض ما يقال في تلك النقاشات، حيث يجري تخوين واتهام ناشطين معروفين ومشهود لهم، من قبل أشخاص بأسماء حركية وغير معروفة، بل إنّ الأسماء المعلنة تعود لشخصيات تركن في الظل، وليست لها نشاطات ومساهمات معروفة في العمل السوري العام.
لا أريد أن أذهب إلى حد اتهام أحد بالعمالة للنظام، وإن كان في تجربة السنوات السورية السابقة بعض ما يؤكد تسلّل عناصر أمنية أو عميلة للنظام إلى صفوف الناشطين وتشكيلات الثورة، ولا سيما في التشكيلات المسلّحة، بل أؤكد أنّ بعض ما يُقال من اتهامات دينية وطائفية للناشطين، لا يتجاوز أنه يُقدّم خدمة مباشرة لنظام الأسد وأجهزته، وبعضها يخدم أجندات الأسلمة والعسكرة، التي تم أخذ ثورة السوريين إليها بعد أن انطلقت ثورة حرية وعدالة ومساواة لكل السوريين في العام 2011، وقد صارت تعبيراتها في شمال غرب سوريا "الحكومة المؤقتة" و"الجيش الوطني" من جهة، و"هيئة تحرير الشام" بزعامة الجولاني و"حكومة الإنقاذ" من جهة أخرى.
وثمة محتويات في النقاشات الجارية، تتجاوز ما سبق كله، وهي الأكثر حضورًا، يثيرها مشاركون لا يعرفون ما يكفي عن الموضوع الذي يتم النقاش فيه وحوله، وبينهم من لا يعرف شيئًا عن الأسماء والقصص التي يتم تداولها والتعليق عليها، والأمر ينطبق على الجوانب القانونية والحقوقية، التي هي موضوعات تخصصية محددة.
لقد جعلت البيئة المحيطة بالنقاش (كما يحصل في حالات كثيرة في النقاش السوري) أصحاب الموقف العقلاني والموضوعي، بل والقانونيين والحقوقيين الحاضرين في النقاش الجاري ضعفاء، ومتساهلين في موجة النقاش، ويسكت بعضهم مضطرًا إزاء اتهامات وهجمات المغرضين وأصحاب الرؤوس الحامية والأجندات.
تتزايد فرص ذهاب سوريا إلى مجهول غير مقدّر ليس فيه رابح واحد
إنّ مجريات ومحتويات النقاش الراهن حول تجربة المدافعين عن العدالة وحقوق الإنسان، ليست سوى صورة مكررة لنقاشات جرت بين السوريين على مدار السنوات الـ13 الماضية بفوارق بسيطة. إذ هي أحسن بقليل من بعض، وأسوأ بقليل من البعض الآخر، لكنها في النتيجة متماثلة، لا تأتي بنتائج عملية ومفيدة تعالج المشكلة موضوعها، أو تقارب بين السوريين، وتجعلهم أقدر على إدارة الخلافات وتطوير توافقات لا بد منها، ليس من أجل الخروج من الكارثة التي صاروا فيها فقط، بل من أجل مستقبل سوريا التي تتزايد فرص ذهابها إلى مجهول غير مقدّر، ليس فيه رابح واحد.
لقد بات من الضروري على السوريين التوقف عند ما خلّفته تجربة السنوات الماضية في علاقات السوريين ومسارات عملهم، واستخلاص نتائج تجارب ما حصل وتبديل مقولاتهم وتطوير معلوماتهم وخبراتهم، إذا رغبوا بالاستمرار والمساهمة في العمل العام، وإلا فإنّ التنحي جانبًا هو الإجراء الأفضل، لأنه لا يخفف من الصراعات السورية، وكثير منها لا معنى ولا مبرر لها في أغلب الأحيان، إنما هو يوقف استباحة وتدمير رموز من نخبتهم، ويخفف معاناتهم، ويقرب فرص الحل السوري والخروج من المستنقع.
(خاص "عروبة 22")