التحوّل نحو الاقتصاد الأخضر، لا تمليه فقط سياقات ودواع بيئية، بل تحدّده أيضًا بواعث اقتصادية وسياسية، كتلك التي جعلت الدول الأوروبية بعد تفجّر الأزمة الروسية - الأوكرانية، تبحث عن بدائل حقيقية لتغطية عجزها المتفاقم، ومواجهة ثقل الفاتورة الطاقية الذي أسهم في تراجع تنافسية الاقتصاد الأوروبي، وهي بدائل تَروم تسريع الخروج من الارتهان لمصادر الطاقة الأحفورية، لصالح اعتماد تدريجي للطاقة المتجددة، وهو النهج الذي تسير وفقه دول أخرى إلى جانب دول الاتحاد.
والتوجه نحو اقتصاد أخضر، من شأنه تقليص حجم سوق الطاقة الأحفورية بشكل تدريجي، وهو ما قد ينعكس سلبًا على إيرادات عدد كبير من الدول العربية، التي تعتمد بشكل أساسي على صادراتها من المحروقات والمواد والمنتجات الملحقة بها، وهو ما يطرح عددًا من الأسئلة حول مدى قابلية اقتصاد هذه الدول لمواكبة هذه التحولات الطارئة على المشهد الاقتصادي الدولي.
توجيه معظم إمكانيات الصناديق السيادية نحو الخارج لن يكون له أثر إيجابي على تطوير الأداء الاقتصادي الداخلي
ارتباطًا بهذه التحوّلات، سعت بعض الدول العربية خلال العقد الأخير إلى تنويع اقتصادها، خاصة دول منطقة الخليج، بعد أن استشعرت دنو أفول عصر الطاقة الأحفورية، سواء عبر نضوب احتياطاتها أو انصراف القوى الاقتصادية الكبرى نحو بدائل جديدة، وهو ما حتّم عليها تكثيف الخُطى لتنويع اقتصادها وتقليص الارتهان للمحروقات، تارةً عبر بوابة الصناديق السيادية الموجهة نحو الخارج، وتارةً أخرى عبر بوابة تشجيع الاستثمارات الأجنبية في القطاعات غير النفطية، حيث سعت إلى تطوير القطاعات العقارية والخدماتية والمصرفية والمينائية والسياحية أيضًا، إلى جانب تعزيز الاستثمار في الطاقات المتجددة والتكنولوجيا وتطوير بعض القطاعات الصناعية، ودعم المقاولات الوطنية الخاصة.
اقتضت هذه التوجهات أيضًا العمل على تخليص الاقتصاد والتدبير الحكومي من هيمنة العقلية الريعية عبر اعتماد طرائق محوكمة لتدبير مالية هذه الدول، سواء تعلّق الأمر بتحصيل التمويلات أو سُبل إنفاقها، كما اقتضت كذلك إيلاء عناية خاصة لتطوير منظومة التعليم والبحث العلمي ووضع تصورات لتخفيف حضور العمالة الأجنبية، وهو ما يعكس توفر الإرادة السياسية لدى هذه الدول من أجل إحداث تغيّرات بنيوية على مستوى تدبير الشأن الاقتصادي.
الواقع والبدائل
عمومًا، لا يمكن أن نتغاضى عن كون الخطوات التي اتخذتها هذه الدول من أجل مواكبة التحولات الطارئة على مستوى المشهد الاقتصادي الدولي تندرج في سياق التوجهات الإيجابية، غير أنّه لا يمكن أن نغفل طابعها المتأخر والبطيء مقارنةً بوتيرة التغيّرات التي يعرفها الاقتصاد العالمي، إلى جانب كون عدد منها بحاجة إلى مراجعة شاملة لمنطلقاته وأدواته.
فعلى سبيل المثال لا الحصر، يُعد توجيه معظم إمكانيات الصناديق السيادية نحو الخارج وتركيز الاستثمارات في قطاعات تجارية وخدماتية وترفيهية وعقارية اختيارًا محفوفًا بالمخاطر، لن يكون له أثر إيجابي على تطوير الأداء الاقتصادي الداخلي وتطوير القطاع الخاص، وسيكرّس الطابع الريعي الذي يُشكّل عقبة حقيقية أمام لحاق اقتصاد منطقة الخليج بركب الاقتصاد العالمي.
التعاون الاقتصادي العربي - العربي يُسهم في توفير سوق استهلاكية كبرى من شأنها تعزيز ظهور صناعات عربية قوية
يُحتم هذا الوضع على دول الخليج على وجه الخصوص، والدول العربية المصدّرة للمحروقات عمومًا، إعادة النظر بعمق في طرائق توظيفها لعائدات النفط والغاز وتنويع خريطة استثماراتها الداخلية والخارجية، وتسريع الإصلاحات البنيوية، خاصّة المتعلقة بمالية الدولة والنظام الضريبي ومناخ الأعمال، إلى جانب تسريع إصلاح منظومة التعليم العالي والبحث العلمي، وفسح المجال أمام القطاع الخاص، وإعادة تعريف أدوار الدولة وقصرها على التخطيط الاستراتيجي والتشريع والمواكبة والمراقبة والتوجيه، إلى جانب أدوارها الاجتماعية، والتأسيس لعلاقة شراكة مع القطاع الخاص وِفق توزيع دقيق ومتكامل للأدوار، دون إغفال ضرورة إقرار إصلاحات سياسية حقيقية وتوسيع هوامش الحرية وتعزيز استقلالية القضاء.
كل هذه الإصلاحات، يجب أن تقترن بنظرة شمولية تنحو باتجاه إقرار تعاون اقتصادي عربي - عربي سيُسهم حتمًا في تعزيز تبادل الخبرات وتسريع التحوّلات، وتوفير سوق استهلاكية كبرى من شأنها تعزيز ظهور صناعات عربية قوية، وأيضًا تعزيز فرص الصمود في وجه الأزمات المرتقبة.
(خاص "عروبة 22")