لقد كان هاجس المصير المشترك وضرورة التوحّد لمواصلة السير في ركب الحضارة الحديثة، من أهمّ القضايا التي شغلت رجال الإصلاح والنهضة، ثم منظّري الحركة الوطنية ورواد دولة الاستقلال. ورغم كل الإخفاقات ظلّت القناعة راسخة بذلك لدى كل التيارات تقريبًا، حتى وإن تمّ التعبير عنها بأساليب متفاوتة ومتباينة، وظلّ حلم التكامل والإحساس بالانتماء المتبادل قائمًا، وما ذلك إلا لعمق الإحساس بوحدة المصير.
المصير العربي المشترك حقيقة يؤكدها التاريخ وتثبتها الجغرافيا وتسندها الحضارة، وليس تردادًا لحلم رومانسي انقضى زمنه وفقد بيرقه، ولا هو استرجاع لحكايات أيديولوجية عقيمة، وليس دعوة عرقية ضيّقة في زمن الانفتاح العالمي وثورة الاتصالات والذكاء الاصطناعي. إننا نفهم العروبة فهمًا حضاريًا يقوم على ثلاثة أسس: اللغة العربية والدين الإسلامي والتاريخ المشترك.
العرب من غير المسلمين لم يكن وجودهم هامشيًا، بل كان فاعلًا ومؤثرًا في تطوّر الحضارة العربية الإسلامية
الإسلام الذي نشر العربية ورفع مكانة العروبة، فتعرّبت شعوب وأمم ما كان لها أن تتعرّب لولا الإسلام، والعربية التي أصبحت لسان الإسلام أينما كان، باعتبارها اللغة الرسمية والثقافية أو لأنها لغة الدين، ولعلّ هذا ما جعل عبد الحميد بن باديس يصف القومية العربية بأنها "اتحاد الفؤاد واللسان" أي العقيدة الإسلامية واللغة والعربية، بعيدًا عن أيّ صفاء عرقي موهوم، كما نلمس ذلك أيضًا عند جمال الدين الأفغاني من قبل. وبذلك أصبح الإسلام المرجعية الحضارية لكلّ العرب بغضّ النظر عن دياناتهم.
فإذا رجعنا لعصور ازدهار الحضارة العربية الإسلامية سنلمس ذلك بوضوح: علميًا وثقافيًا واقتصاديًا وإنسانيًا، كما أنّ العرب من غير المسلمين لم يكن وجودهم هامشيًا، بل كان فاعلًا ومؤثرًا في تطوّر الحضارة العربية الإسلامية، وإذا عدنا إلى العصور الحديثة، سنجد هذا الوعي لدى قادة سياسيين وفكريين بارزين، فالزعيم مكرم عبيد كان يكرر دائمًا: "أنا مسيحي دينًا ومسلم وطنًا"، كما تعجّب ميشيل عفلق كيف يكون المرء عربيًا ولا يحبّ الإسلام؟ بل إنّ قسطنطين زريق يذهب أبعد من ذلك، ويرى أنه يجب على كلّ عربي أن يدرس الإسلام بغض النظر عن دينه. وبهذا المعنى الحضاري للدين الإسلامي واللغة العربية أصبح بمقدورنا الحديث عن الفلسفة العربية والعلم العربي، وإلا فمن هو الفارابي ومن هو ابن سينا؟ وحتى سيبويه نفسه مقعد النحو العربي؟ إن الكثير من العلماء والفلاسفة والساسة ورجال الدين والقادة العسكريين من أصول غير عرب، ولكنهم عرب بالدين واللغة العربية.
التناقضات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية لا تنفي المصير المشترك
ولو لم يكن المصير العربي المشترك حقيقة لتعيّن على العرب خلقه لأنه ضرورة استراتيجية. ففي ظلّ التكتلات العالمية والمتغيّرات الدولية، لا بديل عن التعاون والتعاضد والتكامل، فالعالم العربي كتلة متجانسة جغرافيًا وتاريخيًا واجتماعيًا وثقافيًا، ما يرشّحه لأن يكون نموذجًا للعمل المشترك، والتأثير الإقليمي والدولي. فنحن نتكلم عن خريطة متصلة تحتلّ قلب العالم، بمساحة 13.2 مليون كلم، تطلّ على أغلب المحيطات والبحار، وعدد سكانها أكثر من 441 مليون نسمة تشكّل نسبة القوى العاملة فيها 47.4، وغنية بالثروات الطبيعية التي تغطي مختلف القطاعات، من النفط والغاز الطبيعي والمعادن والزراعة، والثروات الحيوانية والسمكية. قد يستغرب مستغرب أو يستفسر مستنكر، أيّ مصير مشترك للعرب في ظلّ صراعات عصفت بدول وعطّلت أخرى؟ ووجود دول غنية لحدّ البذخ وأخرى فقيرة لدرجة الجوع؟
في مسألة المصير المشترك لا بدّ من التمييز بين الحكومات والشعوب، وبين ما هو كائن وما ينبغي أن يكون، وبين الآني والإستراتيجي، وبين الأزمات العارضة والفترات الطبيعية، وبين الثوابت الجغرافية والتاريخية والمتغيّرات السياسية، وبين الجوهري والعرضي. ثم إنّ التناقضات: الاجتماعية والسياسية والاقتصادية لا تنفي المصير المشترك، لأنها تحدث في البلد الواحد، وأحيانًا في الأسرة الواحدة.
(خاص "عروبة 22")