بصمات

الرؤية التاريخية الغائبة

إذا كان مفهوم الرؤية يُحيل غالبًا على معنى الاستشراف والمستقبل مثلما يتوضّح ذلك بشكل تفصيلي في مشروع عالم المستقبليات المغربي المهدي المنجرة، فإنّ جلّ التجارب الحضارية أثبتت أنّ مفهوم الرؤية الاستشرافية لا يمكن أن ينفصل عن التاريخ سواء بصفته بُعدًا من أبعاد الشخصية والذات والهويّة، أو بصفته صيرورة حضارية مستمرّة ضمن جدل الواقع والتاريخ والمستقبل. وبهذا المعنى فإنّ الحديث عن الرؤية التاريخية يشمل ثلاثة أبعاد متعاضدة لا يمكن فيه الفصل العملي بينها بحكم أنّها المحرار المحدّد للوجهة الحضارية. تشمل تلك الأبعاد الثلاثة الماضي والحاضر والمستقبل وكلّ ما تحمله من مؤشّرات سوسيوثقافية وسياسية وحضارية.

الرؤية التاريخية الغائبة

يمكن القول من ذلك المنطلق أنّ غياب الرؤية التاريخية السليمة علامة بارزة في المجال التداولي العربي الإسلامي. إذ تؤشّر معطيات كثيرة على افتقادها في أكثر من مجال أو مستوى سواء في ما يخصّ الموقف من الذات التاريخية والحضارية، أو في مستوى العلاقات البينية القائمة بين دول العالم العربي، أو في مستوى الموقف من الغرب ولا سيما الصراع الفلسطيني الإسرائيلي.

قمين بنا الإشارة في ما يخصّ الموقف من الذات الحضارية، إلى تسجيل غياب "الفكر" أو "العقل" التاريخي الذي يتقن عملية تنظيم التراث المادي والرمزي وإعادة تبويبه وعقلنته بشكل يخلّصه من الشوائب والزوائد التي التصقت به وشوّهته إلى حدّ أصبح فيه عبئًا ثقيلًا يُكبّل الذات العربية ويُعيقها عن استئناف دورها الحضاري المعطّل، وتجاوز حالة "الانسداد التاريخي" التي أضحى عليها العالم العربي منذ بزوغ فجر "الأزمنة الحديثة" بداية القرن 16 ميلاديًا، وتشكّل الحضارة الحديثة والمعاصرة.

الأمّة القويّة تنجح في استيعاب الاختلافات ضمن مشروع حضاري جامع يسهم فيه الجميع

وقد كانت نوعية العلاقات القائمة بين مختلف الدول العربية مرآة عاكسة لغياب رؤية تاريخية سليمة تستثمر نقاط التقاطع المشتركة في مستوى اللغة والمعتقد والتاريخ وطبيعة التحدّيات الراهنة والمصير المشترك لإيجاد شكل من أشكال التعاون والاندماج المثمر بين مكوّنات الكيان العربي وعناصره.

ولمّا كان الوضع على النحو المذكور آنفًا، فإنّه قد سادت الخطابات القصووية بدل الخطاب العقلاني التواصلي الذي يُكرّس التوازن والمعقولية والاتّزان بين مختلف الأطراف على أساس أنّ الأمّة القويّة هي التي تنجح في استيعاب مختلف الاختلافات الطائفية والعقائدية والثقافية، فتعيد صياغتها وسبكها ضمن مشروع حضاري جامع يسهم فيه الجميع على أساس تكافؤ الفرص وحقوق المواطنة الكاملة.

عندما لا تتوفّر إذن شروط التحصين الذاتي التي من أهمّها التصالح مع الذات وترتيب البيت العربي الداخلي ولو في مستوى المصالح المشتركة، فإنّه من المنطقي ضمور الفكر أو "العقل" الاستراتيجي في مستوى الموقف من الغرب. وتعدّ في هذا السياق تاريخية الصراع العربي الإسرائيلي شاهدًا على غياب الرؤية التاريخية السليمة وضآلة التفكير الاستراتيجي. إذ لم تستطع القوى العربية مجتمعة منع أو إيقاف إعلان دولة إسرائيل في أيار/مايو 1948 على أرض فلسطين رغم انكشاف نوايا القوى الدولية إثر إعلان وعد بلفور الشهير منذ أكثر من ثلاثة عقود (2 نوفمبر/تشرين الثاني 1917) قبل الإعلان الرسمي عن تأسيس "دولة إسرائيل".

ولم تكن نكسة حزيران/يونيو 1967 وحروب الخليج المتتالية، وما تمحّض عنها من اتفاقية السلام العربي/الإسرائيلي (مؤتمر مدريد واتفاقية أوسلو 1993)، و"صفقة القرن" إلاّ نتائج لحالة التخبّط أو الارتجالية التي تحكم السياسة العربية. وهو ما جعل مواقفها مهزوزة وخارج التاريخ ليس فقط في مستوى غياب التأثير في مجريات الأمور وتوجيهها بما ينسجم مع الحلم أو الرهان العربي في النهوض واستعادة الحقوق المغتصبة، وإنّما حتّى في مستوى المحافظة على الحدّ الأدنى من التضامن العربي، واستمرارية الكيانات المنبثقة عن اتفاقية "سايكس بيكو"، وقدرة الدولة الوطنية على توفير المقوّمات الأساسية للاستقرار السياسي والاجتماعي للشعوب العربية.

المطلوب قدرات فكرية نقدية تعيد ترتيب الأولويات والتوجّهات بما ينسجم مع مختلف المستجدّات وطبيعة التحدّيات

تبدو الحاجة إلى اكتساب رؤية تاريخية سليمة ضرورة قصوى. فقد تساعد على الاستفادة من أخطاء التجارب السابقة وعدم تكرارها بأيّة صيغة من الصيغ. وهو ما يساعد على مباشرة عملية تصحيح ذاتي طويلة النفس تتطلّب تضحيات مضنية لا سيما من الجيل المؤسّس لعملية التصحيح الموعودة. وعندما تتوفّر هذه الأرضية - التي تعدّ بمثابة النواة الصلبة لمختلف السياسات العامة سواء السياسات المتّصلة بتدبير الشأن العام في مجالات التعليم والثقافة والتنمية العادلة، أو السياسات الخارجية المتّصلة بطبيعة العلاقة بالعرب وطرق إدارة الصراع العربي الإسرائيلي - فإنّه من المنتظر تغيّر نتائج المعادلة وطبيعة المآلات بما يعزّز فرص العالم العربي في التغيير الحضاري الإيجابي واستئناف مشروع النهضة والتقدّم والحداثة المعطّل.

لا يتطلّب اكتساب رؤية تاريخية سليمة إرادة قوية في حسم الخيارات فقط، وإنّما كذلك جسارة حقيقية وقدرات فكرية نقدية تُحسن قراءة النصوص والأحداث والوقائع، فتعيد ترتيب الأولويات والتوجّهات بما ينسجم مع مختلف المستجدّات وطبيعة التحدّيات الراهنة. وهو ما يتيح صياغة بدائل ورسم سيناريوات متعدّدة لكلّ الفرضيات والاحتمالات المتعلّقة بتحقيق رهان الأمّة العربية الإسلامية في التحرّر والازدهار.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن