الأهمّ من كل ذلك، أنّ هناك حدودًا لعلاقة الصين وروسيا بإيران، لأسبابٍ عدّة أبرزها أنّ النظام "الإسلاموي" الإيراني، مهما كان سلوكه الفعلي طائفيًا وقوميًا، فإنّه يثير توجّس الصين وروسيا اللتَيْن لديهما أقلّيات مسلمة كبيرة. كما يقلقان من تأثيره في منطقة آسيا الوسطى والتي يشبه تكوينها العرقي الأقلّيات المسلمة في البلدَيْن، إضافةً إلى أنّه يظلّ هناك عداء تاريخي كامن بين طهران وموسكو، فروسيا القيصرية هي التي انتزعت أراضي إيران في القوقاز وليس الغرب.
واشنطن تستخدم مع روسيا والصين وإيران منهج "فرّق تسُد"
ويجب ملاحظة كذلك، أنّه بالنسبة إلى موسكو تحديدًا، فإنّها حريصة في علاقتها مع إيران على عدم إغضاب إسرائيل التي تحتفظ معها بعلاقةٍ قويةٍ لأسبابٍ عدّة، منها النسبة الكبيرة لليهود الروس في إسرائيل ودورهم المركزي في السياسة والاقتصاد في روسيا. وتظهر قوة هذه العلاقة في امتناع إسرائيل عن تزويد أوكرانيا بالأسلحة، ورغبة دولة الاحتلال في بقاء النفوذ الروسي في سوريا لموازنة النفوذ التركي.
ولكن ما يجمع البلدان الثلاثة، روسيا والصين وإيران، هو تضرّرها من طريقة استخدام أميركا لقوتها على الساحة الدولية، أي ما يُسمّى في الثقافة العربية بـ"حلف الضرار"، ولكن واشنطن تستخدم مع هذه البلدان منهج "فرّق تسُد"، فعادةً تفرض أشدّ العقوبات على طهران (قبل لحاق موسكو بها) وعقوبات متوسطة على روسيا، بينما نسجت علاقةً اقتصاديةً قويةً مع الصين. وعند محاولة بكين وموسكو توثيق علاقتهما مع طهران بطريقةٍ تتجاوز خطوط واشنطن الحمراء، تعمد الولايات المتحدة إلى تهديد البلدين بالعقوبات، وبالفعل فرضت عقوباتٍ كثيرةً على شركاتٍ صينيةٍ بسبب تعاملها مع إيران، لدرجة أنّ بكين تُخصّص شركات بعينها للتعامل مع إيران لتستطيع تحمّل العقوبات.
واستفادت الصين تحديدًا من هذا الوضع كثيرًا، إذ تشتري النفط الإيراني بأسعارٍ مُخفّضة، وعادةً ما تُوسّع الاستيراد إذا أرادت معاتبة واشنطن، أو إذا تغاضت الأخيرة عن هذه التجارة، مثلما حدث في عهد جو بايدن. والمفارقة أنّها تتبع نهجًا مشابهًا مع روسيا فتشتري منها النفط والغاز بسعرٍ رخيصٍ بينما لا تزوّدها بالأسلحة التي تحتاجها في حرب أوكرانيا.
لا تستطيع إيران الاستغناء عن روسيا والصين في ظلّ الحصار الغربي وبالتالي فهي تخضع لشروطهما
وفي مقابل تدفّق السلع الصناعية الصينية على إيران، فإنّنا لم نَرَ تدفّقًا للاستثمارات أو المشروعات الصينية عليها، ولم تحاول الصين أو روسيا تعويض خروج شركات النفط والغاز الأوروبية، بالاستثمار في مشروعات الغاز والنفط الإيرانية ممّا جعل إنتاج طهران من الطاقة أقلّ كثيرًا من قدراتها الحقيقية.
وفي حين يصدح القادة الإيرانيون، بخاصة المحافظون، بالحديث عن التوجّه شرقًا، فإنّ انتقاداتٍ كثيرةً تنتشر بين أوساط الإصلاحيين لاتفاقية الشراكة مع الصين تحديدًا، والتي يرون فيها استغلالًا صينيًا لبلادهم. وتنصّ هذه الاتفاقية التي أُبرمت في مارس/آذار 2021 على أنّ بكين ستستثمر نحو 400 مليار دولار في إيران على مدى 25 عامًا، مقابل إمداداتٍ ثابتةٍ من النفط، ولكنّها ما زالت بعيدةً تمامًا عن التنفيذ.
فالولايات المتحدة ودول الخليج شريكان ضخمان، والابتعاد عنهما مُكلف للصين (وبصورةٍ أقلّ لروسيا). في المقابل، فإنّ موسكو وبكين أصبحتا شريكتين اضطراريتين بالنسبة لإيران لا تستطيع الاستغناء عنهما في ظلّ الحصار الغربي، وبالتالي فهي تخضع لشروطهما.
القطيعة مع الغرب أفضت إلى تعرّض إيران لشكل من أشكال "الإمبريالية الشرقية"
بالتأكيد، إن الحرب الأوكرانية والحرب التجارية الصينية - الأميركية قد وتّرتا علاقة كل من روسيا والصين بالغرب وقرّبتهما من إيران، كما ظهر في دعم الأخيرة عسكريًا لروسيا ضد أوكرانيا، ولكنّ الأمر لم يصل إلى حدّ دخول بكين أو موسكو في خلافٍ مع واشنطن أو الغرب أو دول الخليج العربية من أجل طهران.
والمفارقة هنا أنّ إيديولوجيا الثورة الإيرانية قامت على التخلّص من نير الإمبريالية الأميركية، وجزء من خطاب إيران والموالين لها المُنتقد للعديد من الدول العربية قائم على الحديث عن استغلال أميركا لثروات المنطقة. ولكنّ الواقع أنّ القطيعة مع الغرب فرضت على إيران إقامة علاقةٍ اضطراريةٍ مع موسكو وبكين، وأفضت إلى تعرّضها لشكلٍ من أشكال "الإمبريالية الشرقية" ولو بطريقةٍ مُخفّفة، فتُصدّر طهران النفط رخيصًا لبكين مقابل تدفّقٍ لسلعٍ صينيةٍ كثيرًا ما تضرّ صناعتها المحلّية. كما تُصدّر إيران الصواريخ والمُسيّرات إلى روسيا، مُعرّضةً نفسَها للمزيد من العقوبات الغربية، بينما لا يصلها شيء من الأسلحة عندما تتعرّض لهجومٍ أميركيّ - إسرائيليّ.
جزء من قوة العرب في تعاملهم مع أي قوة عظمى أن يكون واضحًا لها أنّ لديهم بدائل
تُمثّل التجربة الإيرانية درسًا مُهمًّا للعرب، فعلى الرَّغم من الحاجة الماسّة للتقارب مع الصين وروسيا، فإنّه يجب أن يكون هناك دومًا تنوّعٌ في التحالفات والشراكات الاقتصادية والسياسية، فجزءٌ من قوة العرب في تعاملهم مع أي قوة عظمى أن يكون واضحًا لها أنّ لديهم بدائل. ولقد بدأت دول الخليج ومصر، خلال السنوات الماضية، عملية تنويعٍ لافتةٍ لشبكة علاقاتها الخارجية عبر توثيق العلاقات مع الصين وروسيا والهند، وكذلك تعزيز علاقاتها مع فرنسا التي تُمثل إلى حدٍّ ما صوتًا مختلفًا في المنظومة الغربية. كما أنّ هناك اهتمامًا خليجيًا ومصريًا بتعزيز العلاقات مع كوريا الجنوبية التي أصبحت بلدًا مهمًّا جدًّا في تصدير التكنولوجيا بما فيها العسكرية.
إذ لا يجب أبدًا على العرب أن يضعوا بيضهم في سلةٍ واحدة.. "حتّى لو كانت غير أميركية".
لقراءة الجزء الأول
(خاص "عروبة 22")