لكن هناك حاجة ماسة لتقييم واقعي للقدرات الإيرانية العسكرية والاقتصادية والعلمية، وكذلك المقارنة بينها وبين النماذج العربية، لخلق مقاربة واقعية للتعامل معها، وأيضًا لتجنّب أخطائها والاستفادة من نقاط قوتها.
إحدى إشكاليات تقييم تجربة إيران، هو ميل قادتها للمبالغة الشديدة لدرجة كاريكاتورية في قدرات بلادهم لا سيما العسكرية.
إيران ليست قوة عسكرية جبارة إقليميًا بالمعايير التقليدية لكن لديها عوامل قوة فعالة غير تقليدية
فكثيرًا ما استعرض الإيرانيون صواريخ، قالوا إنها تستطيع محو إسرائيل، وتحدثوا عن إنتاج طائرات شبحية وصواريخ فرط صوتية وطوربيدات أسرع من الصوت، قوبلت بالسخرية من قبل المتخصصين في هذه المجالات.
ولكن الواقع أنه على عكس ما هو شائع، إيران ليست قوة عسكرية جبارة إقليميًا بالمعايير التقليدية كما تقول، فسلاحها الجوي عفا عليه الزمن، وكذلك أسطولها من الدبابات، وكلاهما أقل قوة بشكل واضح من القوى الثلاث الأكبر بالمنطقة، وهي إسرائيل وتركيا ومصر، وحتى من السعودية، وأسطولها البحري (وهو ميزتها الرئيسية) متأخّر عن كثير من دول المنطقة ولم يشهد إنضمام قطع بحرية حديثة منذ عقود.
وقد تكون إحدى نقاط قوة إيران هي أنها واحدة من أهم دول العالم حاليًا في إنتاج الطائرات المسيّرة، التي تُعد سلاح المستقبل خاصة أنها تصنعها بتكلفة منخفضة. ومع ذلك كما تبيّن بحرب أوكرانيا، حيث نجح الروس في تحييد مسيّرات بيرقدار التركية، فإنّ هناك حدودًا لقدرات المسيّرات، وما زالت بعيدة عن إمكانيات المقاتلات المأهولة.
وقوة إيران الصاروخية قد تكون الأضخم بالمنطقة بعد إسرائيل، ولكن هناك مبالغة في تقييم تأثير الصواريخ بالحروب كما يظهر من حرب أوكرانيا وحرب الخليج عام 1991، فالصواريخ سلاح مثير للاضطراب خاصة بين المدنيين، ولكنها ليست مدمّرة لقدرات الخصم، وخاصة بعد تطوّر أنظمة الدفاع الجوي، وخطر الصواريخ الأساسي يأتي لو حملت أسلحة دمار شامل وخاصة الرؤوس النووية.
ولكن في مقابل ذلك لدى إيران عوامل قوة فعالة ولكن غير تقليدية، فهي تكاد تكون واحدة من أكثر دول العالم اعتمادًا على الذات بالتصنيع العسكري، (بمعدل أعلى من روسيا نفسها)، وبات لديها خبرات لافتة بالهندسة العكسية للأسلحة، وجزء من ترسانتها من الطائرات المسيّرة يحاكي مسيّرات أمريكية.
يعني ذلك ميزتين لإيران، الأولى أنها لا تكاد تعتمد على أي طرف خارجي في بناء أسلحتها، وهي مسألة مهمة بالحروب، فأن تمتلك إمدادات دائمة من أسلحة عتيقة خير من أسلحة حديثة معرّضة لحظر خارجي، الميزة الثانية أنها تحقق تطورًا قد لا يكون سريعًا ولكنه تراكمي وقد يشكل فارقًا بعد عقود.
كما أنّ جزءًا من قوة طهران، استفادتها من ميزاتها الجغرافية ومن الأزمات بالمنطقة، فإيران عكس ما تدعي قد لا تستطيع وقف أي قصف جوي واسع للطائرات الأمريكية وحتى الإسرائيلية، ولكنها بالوقت ذاته بلد وعر وضخم، ولقد استعدت لخوض مثل هذه الحروب بشكل غير تقليدي، وكما يظهر من تقارير غربية وإيرانية، ففي حال أي هجوم جوي أمريكي أو إسرائيلي، فحتى لو لم تستطع طهران التصدي له، فإنّ هذا الهجوم سوف يجد معظم الأهداف محصّنة بجبال البلاد الوعرة، ويُقال في هذا الصدد إنّ البرنامج النووي الإيراني مخئبئ في منشآت شديدة التحصين.
تُفضّل إيران حصد مكاسب على الأرض في البلدان العربية عبر الميليشات التابعة دون خوض حروب واسعة
حتى سيناريو الغزو الشامل، كما فعلت أمريكا مع العراق عام 2003، فيبدو صعبًا مع بلد شاسع ووعر مثل إيران أغلب مدنه الرئيسية في أحواض سهلية محاطة بالجبال بعيدًا عن سواحل البلاد، ومحمية من ناحية العراق بجبال زاغروس الشاهقة، يضاف لذلك موقع جغرافي يتيح لها إثارة الاضطراب بالمنطقة، وميليشيات تابعة منتشرة بأربع دول عربية، كثير منها ترى في المرشد الأعلى نائبًا للإمام الغائب، وبالتالي هي مستعدة لإحراق بلدانها لحماية عرشه.
ولذا تُفضّل إيران إبقاء التوتر بالمنطقة منخفض الوتيرة، لتستطيع حصد مكاسب على الأرض في البلدان العربية عبر الميليشات التابعة دون خوض حروب واسعة، وهو ما جعلها تعمد لتنفيذ رد استعراضي على إسرائيل دون إيقاع ضرر كبير، يفسد هذه المعادلة.
وهكذا بنت إيران إمبراطورية في المنطقة بأرخص التكاليف، ودون شن حروب واسعة.
وتستمر مفارقات إيران، في المستويات العلمية والأكاديمية حيث نجد النجاح والفشل الأكبر للنظام الإيراني.
فلقد اهتم هذا النظام بالجامعات والبحث العلمي منذ نشأته كوسيلة للاعتماد على الذات، والنتيجة مستوى علمي جيد نسبيًا، ولكن مقابل ذلك بطالة واسعة للشباب المتعلّم، ومؤسسات تسودها البيروقراطية وغير قادرة على استيعاب هذا الشباب، وحريات مسيّجة بعشرات الأسوار الدينية والسياسية، بشكل يخنق ألباب هذا الشباب الذي تعلّم بجامعات النظام.
وفي الاقتصاد، تظهر عيوب النظام الإيراني بشكل أكبر، فرغم تحقيق البلاد اكتفاءً ذاتيًا لافتًا وقدرة على الالتفاف على العقوبات ولكن في المقابل، فإنّ الاقتصاد يعاني من التشوّهات، جراء الحصار وتبني سياسات شعبوية (مثل دعم الطاقة) وتوسيع سيطرة "الحرس الثوري".
كما أنّ الشكوى من البيروقراطية أمر شائع حتى في كتابات الإيرانيين الموالية للنظام.
في المقابل، فإنّ دول الخليج العربية الأقرب لإيران تقدّمًا تُمثّل نموذجًا مناقضًا يتميّز بالانفتاح الاقتصادي وإدارة حديثة أقل بيروقراطية على النمط الغربي، ولكنه يتسم بقدر كبير من الاعتماد على الخارج والعمالة الأجنبية.
وفي المجال الصناعي، تُعتبر إيران المحاصرة مكتفية ذاتيًا في العديد من الصناعات، حتى أنها حققت إنجازًا لافتًا بتصنيع محركات سيارات محليًا، ولكن أغلب هذه الصناعات قليلة الكفاءة وتدار بشكل غير اقتصادي في نموذج مصغّر للنمط السوفيتي، ولدى إيران على سبيل المثال صناعة سيارات ضخمة، ولكنها تعتمد على الحمائية وليست بكفاءة دول مثل جنوب أفريقيا وتركيا والمغرب التي نجحت في التصدير بشكل واسع عبر الشراكة مع الشركات الأجنبية.
لدى إيران ما يجب أن يتعلّمه وما يجب أن يتجنّبه العرب
إنّ النموذج الإيراني ليس فاشلًا مثل فنزويلا وليس ناجحًا مثل الصين، ولكنه نجح بالتغلب جزئيًا على الحصار، غير أنه بات أسيرًا لهذا المسار، فالعزلة والقبضة الأمنية وتكبيل الحريات والحاجة الدائمة للتخويف من التهديدات الخارجية والتركيز على الفخار القومي القائم على توسيع النفوذ الخارجي باتت أدوات ضرورية للنظام، لمواجهة التحديات الداخلية، وبقاء قبضته أمام استياء الطبقة الوسطى، وقد يفسّر ذلك ما يشاع عن تحفّظ "الحرس الثوري" على الانفتاح على الغرب، لأنّ بقاء الحصار وما يستلزمه من ضرورة استمرار ما يُعرف بـ"الاقتصاد المقاوم" هو أفضل وسيلة لحماية النظام.
قد يكون لدى إيران ما يجب أن يتعلّمه العرب فيما يتعلّق بالاكتفاء الذاتي وتراكم العلم والخبرات المحلية، ولكنها أيضًا تعاني مما يجب أن يتجنّبه العرب مثل الإنعزال والسياسات الاقتصادية الشعبوية وخنق الحريات وهيمنة الأمن على مناحي الحياة، والأهم الأحادية الأيدولوجية القائمة على حكم يدعي سلطات غيبية لا تقبل سوى المعارضة المدجّنة.
(خاص "عروبة 22")