بصمات

السَّرديات الكبرى تُلْهب الحركة الطلابية المتضامنة مع فلسطين

قرأنا في نصوص الفلاسفة المعاصرين عن ثقافة ما بعد الحداثة، التي تعادل في مفهومها نهاية الإيمان بالسَّرديات والغائيات الكلية، ويُعَدُّ جون فرونسوا ليوتارJean-François Lyotard (1924-1998) في نصّه الشَّهير "الوضع ما بعد الحداثي"، الصيغة الفلسفية الأكثر تعبيرًا عن هذا الاتجاه؛ الذي يُهاجم السَّرديات الكبرى أو الميتاحكايات - Grands récits؛ من قبيل جدل الروح أو تأويل المعنى أو تحرير الذَّات العاقلة أو خلق الثروة، والبديل عن هذه المحددات الكلية ثمة: معايير أخرى بخاصة في مجال المعرفة؛ مثل معايير الفعَّالية والأداءات الجيّدة والحكمة الأخلاقية: أي السعادة.

السَّرديات الكبرى تُلْهب الحركة الطلابية المتضامنة مع فلسطين

وهكذا فإنّ اتجاهات ما بعد الحداثة ترفض فكرة الأفكار الطُّولىَ والمعاني الأفقية والتَّفسيرات الخطية. ثم ما لبث أهل الفكر والثقافة بيننا؛ من الذين تشرَّبوا هذه الأفكار، أن أضحوا هم أيضًا، يدعوننا إلى أنّ زمن الإيمان بالكليات قد ولّى، وأنَّ أفكار الحرية والتقدُّم وقيادة الإنسانية وتثقيف الواقع الكوني، هي من مخلفات زمن: السَّرديات أو الميتاحكايات، وما علينا، إلا الشُّروع في الهدم المنهجي لمصادر هذه الأفكار، ومنها المصدر الدِّيني والمصدر الثقافي، فكانت ظواهر: نقد العقل العربي ونقد العقل الإسلامي ونقد أحاديث النّْهايات ونقد المقدس والحرية والتخلّف.

قيمة الإنسان تغذي حركة الطَّلبة في أمريكا والعالم

وكأنَّ ما تم النقاش حوله في أوروبا، يجب أن نناقشه نحن أيضًا، وأن نسلك الأفكار التي اقترحوها هم في تدبير ذواتهم. ثم مرَّ على العقل الإنساني صمت نقاشي حول هذا الموضوع: وكأنَّ القيم الإنسانية الكلية والأخلاق العالمية باتت أقوالًا بلاغية لا قوة لها من جديد، فهي ثمرة عقلانية الأنوار الحالمة بالمسار الحتمي نحو التقدّم وبسعادة الإنسانية/الغربية. ونحن اليوم في زمن ما بعد التَّنوير والحداثة الذي يُدَبر الذَّات تدبيرًا جماليًا ومنفعيًا.

بيد أنّ ما نشاهده اليوم من شر مطلق يمارسه الكيان الصهيوني على الفلسطينيين في غزّة، والتفاعل الإيجابي العالمي مع ما يقع، قد أيقظ من جديد، فكرة المعاني الكلية والقيم العالمية التي تسكن في الإنسانية، فالحركة الطلابية في الجامعات الأمريكية حاليًا؛ التي امتدَّت إلى جامعات أخرى مثل جامعات باريس؛ يجسّد إقرار الطَّلبة فيها بأنَّهم على استعداد لفقدان مسارهم المهني من أجل فلسطين، تعبيرًا جليًا عن أنّ الذي مات ليست هي السَّرديات الكبرى، وإنما موت هذا القول نفسه وفقدان كفاءته التفسيرية لحركة التَّاريخ، فالحرية وقيمة الإنسان وتحرير الذَّات العاقلة ومناهضة الشر المطلق والتصدي لإرادة العنف والصَّمت على الممارسات الصُّهيونية؛ باتت هي القيم التي تغذي حركة الطَّلبة في أمريكا وفي العالم، وهذا معناه أنّ النفس الإنسانية في تكوينيّتها الأصلية هي واحدة، فالأرواح هي أُكُر مقسومة كما جاء في نص ابن حزم في حديثه عن الحب وأصله؛ فالوجود ليس من أجل المتعة والكفاءة والربح والحكمة الأخلاقية الفردية، بل هو من أجل جدل المعنى وقيمة الإنسان ومن أجل روحه ومن أجل الحق في الحياة، وبهذا باتت السَّرديات الكبرى في طليعة الذَّخائر التي توجه حركة التَّاريخ أمام مرائينا ومسامعنا.

مناهضة سياسة الشر المطلق الصهيونية باتت عالمية وكونية

إن الدّرس المعرفي والواقعي الذي يجب وعيه من جديد، هو أنّه عندما يغيب النَّقد لحركة الأفكار في العالم، ويصبح العقل الذي هو طاقة وإمكانية قوية على الفهم والتأثير، مجرد متلقّ سلبي لما يفكر فيه الآخرون، من غير نقد ولا تجاوز، فإنه يفقد خصوصياته الفكرية والثقافية، وهذا حالنا، فما إن نشرع في تقليد الغرب وعيش مشكلاته، والسير خلف الحلول التي اقترحها لمشكلاته، فإنّ أزمتنا ستنمو وتتراكم، بحيث نفقد مقاصدنا وأدوارنا الحقيقية، لا بد من التفكير في مشكلاتنا، بذواتنا، ولا بد من الوعي النقدي بالفكر الغربي الذي يعيش خصوصيته التاريخية والنقدية، وهذا شأن ما يحدث: السَّرديات الكبرى لم تنتهِ، بل الذي انتهى هو هذا الفهم نفسه، لأنّ مناهضة سياسة الشر المطلق الصهيونية باتت عالمية وكونية، تتغذى على قيم الإنسان المنسية، والتي انبعثت فيها الحياة من جديد.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن