وكان لأفراد من البيروقراطية الإدارية وأفراد من النخبة المتعلّمة الدعوة إلى اعتماد الدستور، أي الانتقال بالدولة من طابعها السلطاني التقليدي حيث العاهل هو المرجع الأخير في اتخاذ القرارات المتعلقة بالدولة، إلى نظام يشارك فيه ممثلو الأمّة في صياغة القوانين واعتمادها. وقد اُقرّ الدستور في استامبول عام 1876، في بداية عهد السلطان عبد الحميد، إلا أنّ تعليق الدستور وإيقاف العمل به قد أدى إلى إطلاق حركة سياسية تطالب بعودة العمل بالدستور، تمثّلت بظهور حزب تركيا الفتاة الذي كان أقرب إلى تيار سياسي انتشر مناصروه في المنافي الأوروبية وفي الولايات العربية.
الاحتلال الإنكليزي عام 1882 ساعد على بروز واشتداد الوطنية المصرية
ولا شك بأنّ شهرة إيطاليا الفتاة قد ألهمت العثمانيين الشباب على اختيار الاسم. ومن خلال نشاط المنضوين تحت اسم تركيا الفتاة خرج حزب الاتحاد والترقي الأكثر تنظيمًا والأوضح في برنامجه التحديثي وتأثّره بالتيار الوضعي الفرنسي. وقد تنبّه قادة الاتحاد والترقي إلى أهمية انتشار خلايا حزبهم في صفوف الجيش، وهو الأمر الذي أدّى عمليًا إلى حركة الضباط في سالونيك عام 1908، التي أرغمت السلطان على إعادة العمل بالدستور قبل الإطاحة به في السنة التالية.
وعرفت مصر الدعوة إلى اعتماد الدستور في مرحلة حرجة، بدأت بإرغام الخديوي إسماعيل على التخلّي عن الحكم ثم قيام الجيش بحركة مطلبية بقيادة عرابي وصولاً إلى الاحتلال الإنكليزي عام 1882، الذي ساعد على بروز واشتداد الوطنية المصرية الذي تجسّدت بتأسيس الحزب الوطني بقيادة مصطفى كامل عام 1907، وسرعان ما تأسّس حزب الأمة في العام التالي. وإذا كان مصطفى كامل يرى مصر جزءًا من محيطها العثماني، فإنّ حزب الأمة كان يرى أنّ مصر وطنًا مكتفيًا بذاته وغير متعلق بأي جهة خارج حدودها.
وفي المشرق العربي وأثر الانقلاب الدستوري في استامبول، بدأت ملامح تيار عروبي بالبروز، سرعان ما اتخذ شكل الجمعية أو الحزب الذي عُرف باسم العربية الفتاة الذي يطالب بإقامة كيان سياسي عربي بالانفصال عن الدولة العثمانية، وما لبث أن استجاب أعضاء العربية الفتاة للدعوة إلى الثورة التي انطلقت في الحجاز عام 1916.
إلا أنّ ظروف ما بعد الحرب العالمية الأولى وتكريس الاحتلالات في المشرق العربي، والدعوة إلى الاستقلال، أدّت إلى بروز أحزاب تطالب بخروج الاستعمار، وكانت ثورة 1919 أكبر تعبير عن الوطنية المصرية التي تطالب بجلاء الإنكليز وحق المصريين في أن يتمثلوا في مؤتمر السلام وتقرير المصير في ڤرساي.
إلا أنّ تعنّت الإدارة الإنكليزية واعتقال أعضاء الوفد الذي يطالب بأن تتمثّل مصر في مؤتمر ڤرساي قد أدى إلى ولادة حزب الوفد الذي مثّل طموح الشعب المصري إلى الاستقلال، وأصبح سعد زغلول في العشرينات من القرن العشرين زعيم مصر دون منازع.
كانت قيادة حزب الوفد تتكوّن في غالبيتها الساحقة من خريجي مدرسة الحقوق التي تأسّست في عهد الخديوي إسماعيل. وقد شغل خريجو هذه المدرسة الحياة السياسية في مصر لعدّة عقود من الزمن.
أما في سوريا فنشأت الكتلة الوطنية كحزب يطالب بالاستقلال وكان أعضاء الكتلة بغالبيتهم من خريجي المدارس العثمانية في استامبول، المتأثرين بأفكار عصر التنظيمات والحركة الدستورية. واستطاعت الكتلة الوطنية أن تحظى بتكليف السوريين من خلال انتخاب مرشحيها للمجالس النيابية. ومن قلب الكتلة الوطنية خرج حزب الشعب الذي كان ينتشر في شمال سوريا بينما احتفظت الكتلة الوطنية بشعبيتها في دمشق ومدن الجنوب السوري.
الأحزاب التي تأسّست بعد الحرب العالمية الأولى كانت ذات طابع وطني ليبرالي لكن العثرات التي واجهتها نزعت عنها شعبيتها
وفي مصر لم يستطع حزب الوفد بالرغم من شعبيته الكاسحة أن يمنع التعددية، فكان حزب الأحرار الدستوريين مناوئًا ومنافسًا في الانتخابات النيابية وفي تشكيل الحكومات.
يُضاف إلى ذلك تأسيس الحزب الدستوري عام 1920 في تونس، الذي تأسس مثل حزب الوفد في أعقاب الحرب العالمية الأولى وتحضيرًا للمشاركة في مؤتمر ڤرساي للسلام، وقد ترأسه عبد العزيز الثعالبي، وكانت مبادئ الحزب تركز على النظام الديمقراطي وفصل السلطات وحماية الحريات والمساواة بين المواطنين.
كانت الأحزاب التي تأسّست بعد الحرب العالمية الأولى ذات طابع وطني ليبرالي، واستطاعت حكوماتها من تحقيق إنجازات في مجال التعليم وبداية تصنيع البلاد وممارسة الحياة البرلمانية وبروز طبقة وسطى تؤمن بالتعددية والنظام البرلماني. لكن العثرات التي واجهتها هذه الأحزاب، من خلال توليها الحكومات والأخطاء التي ارتكبتها والفساد الذي اتُّهم به وزراؤها ومسؤولوها، نزعت عنها شعبيتها، في الوقت نفسه الذي كانت فيه التيارات الأيديولوجية وأفكارها الراديكالية تنتشر بين الشباب والطبقات الوسطى والدنيا.
(خاص "عروبة 22")