تقدير موقف

هل تحكُمُنا نُظُم تحب الجهل وتكره العِلم وأهله؟

يبدو السؤال غريبًا، لأنّ النُظُم السياسية العربية تحتفل بالعِلم وأهله. كما أنّ العِلم يُمثّل إحدى أدوات السلطة للسيطرة على المجتمعات، ولتعزيز قوتها في مواجهة الدول الأخرى، وبالتالي فهي في حاجة ماسة له. لكن من يتأمل سلوك غالبية النُظُم الحاكمة في البلدان العربية سيجد أنّ السؤال منطقي لأنّ الإنفاق العام على التعليم وعلى الأبحاث العلمية يشير إلى أنّ مكانتهما تأتي في ذيل أولويات غالبية السلطات في الوطن العربي.

هل تحكُمُنا نُظُم تحب الجهل وتكره العِلم وأهله؟

ورغم أنّ العلوم الطبيعية والتطبيقية تشكّل سندًا محايدًا بلا غرض سياسي، بما يجعل رعايتها أمرًا منطقيًا، إلا أنّ الرأسماليات المدنية والعسكرية التابعة والحاكمة في غالبية الدول العربية تفضّل استيراد تقنيات خارحية، فليس لديها آباء للصناعة يشجعون العِلم والابتكار كآلية لزيادة الإنتاجية وتعزيز القدرة على المنافسة والسيطرة على السوق الداخلية والتمدد خارجيًا، بل مجرد وكلاء للرأسماليات العالمية التي تنوب عنهم في الابتكار وتُلقي لهم بتقنيات الدرجة الثانية أو الثالثة.

أما الفنون والعلوم الإنسانية وبالذات السياسة والاقتصاد والاجتماع والقانون، فإنّ الدولة تريدها في خدمتها وإلا أصبحت موضع شك أو حتى عداء.

الأمية والغش وتدني الإنفاق العام على التعليم

من المفترض أن يُشكّل التعليم البوابة الرئيسية للتحضّر والتنوير واكتساب مهارات الحياة، وإعداد قوة العمل للتعامل مع التطورات التقنية المتسارعة، بما يكسبه أهمية عظمى في تطوّر الأمم، لكنه ليس كذلك في الكثير من الدول العربية حيث تنتشر أمية القراءة والكتابة، والغش المدمّر لقيمة مخرجات النظام التعليمي. كما تنتشر الأمية الثقافية، في ظل استهتار بعض السلطات بالتعليم والثقافة كليًا.

الدول العربية بين الدول الأقل إنفاقًا على التعليم في العالم

وتتفاوت نسبة الأمية (معرفة القراءة والكتابة) بين البالغين في الدول العربية بشكل حاد. وهناك مجموعة هي الأكثر إصابة بالأمية ومعدل الأمية فيها أعلى من المتوسط العربي العام البالغ 20,5% من السكان. وتضم كل من موريتانيا (46,5%)، وجزر القمر (41,2%)، والسودان (39,3%)، واليمن (29,9%)، وجيبوتي (29,7%)، ومصر التي بدأت التعليم والتحديث قبل أكثر من قرنين (28,8%)، والمغرب (26,2%). وهناك دول معدل الأمية فيها أقل من المتوسط العربي العام وأعلى من نسبة 10% من السكان، وتضم الجزائر (18,6%)، وسورية (14,9%)، والعراق (14,4%)، وتونس (13,9%). أما باقي الدول العربية فالأمية فيها أقل من 10% من البالغين. وتُعتبر الأردن وفلسطين هما الأفضل عربيًا حيث بلغ المعدل فيهما بالترتيب نحو 1,8%، 2,3% عام 2021.

وبلغ الإنفاق العام على التعليم نحو 3,4% من الدخل القومي الإجمالي العربي عام 2021، بما يجعل الدول العربية بين الأقل إنفاقًا على التعليم في العالم. وهناك مجموعة من الدول العربية الأعلى في الإنفاق العام على التعليم كنسبة من الناتج القومي الإجمالي مثل الكويت (6,6%)، والسعودية (5,9%)، وفلسطين (5,5%)، وعمان (5,4%)، والمغرب وسورية (4,9%)، واليمن (4,6%)، والجزائر وجزر القمر (4,3%). ومجموعة أخرى متوسطة الإنفاق العام على التعليم هي الإمارات (3,9%)، وجيبوتي (3,6%)، وليبيا (3,3%)، وقطر والأردن (3,2%). وهناك مجموعة منخفضة الإنفاق العام على التعليم وهي لبنان (2,6%)، والبحرين (2,3%)، والسودان (2,2%)، ومصر وموريتانيا (1,9%)، وتونس (1,3%)، والصومال (صفر).

جودة تعليمية منهارة في الدول العربية الكبرى

تعكس المؤشرات المذكورة آنفًا، تأخّر التعليم في جدول أولويات العديد من الدول العربية. وباستثناء قطر والإمارات ولبنان، فإنّ الدول العربية تقبع في مواقع متأخرة بالنسبة لمؤشر جودة التعليم الذي وضع لـ140 دولة عام 2021. وتأتي مصر كبرى الدول العربية في المرتبة قبل الأخيرة (139)، وقبلها بمرتبتين تأتي موريتانيا (137)، بينما تحتل الجزائر والمغرب والكويت وعُمان والسعودية والأردن وتونس والبحرين بالترتيب، المراكز 113، 110، 103، 88، 72، 69، 68، 38 على هذا المؤشر. وتحتل قطر والإمارات ولبنان المراكز 9، 13، 14 بالترتيب على هذا المؤشر عام 2021.

السلوك العملي في الدول العربية يتعامل مع البحث والتطوير العلميين باعتبارهما نشاطًا هامشيًا

تعاني الدول العربية من ضعف الإنفاق العام على البحث والتطوير العلميين، ومن تخلّف علمي وتقني بالغ الخطورة خاصة في ظل التهديدات النووية الصهيونية، وهو التخلّف الذي تتعاظم أسبابه في ظل تراجع القيمة الاجتماعية للعِلم في بيئة اجتماعية تتزايد فيها الاتجاهات غير العلمية وينتشر فيها الدجل والشعوذة التي تستخدم القنوات التلفزيونية والمواقع الإلكترونية في ترويجهما، وأيضًا في ظل الفجوة الكبيرة بين مؤسسات البحث العلمي، ومؤسسات الإنتاج، بما يعرقل تحوّل الإنجازات العلمية إلى قوة تقنية فعالة ومنتجة في الواقع. 

وبالرغم من الإقرار العام في أوساط النخبة الثقافية والسياسية في البلدان العربية بالأهمية الحاسمة للبحث والتطوير العلميين في تحقيق التقدم العلمي والتقني والاقتصادي، وفي رفع القدرة التنافسية لأي اقتصاد من خلال تقليل تكلفة الإنتاج وتحسين جودة المنتجات وابتكار منتجات جديدة، إلا أنّ السلوك العملي في الدول العربية يتعامل مع البحث والتطوير العلميين باعتبارهما ترفًا ونشاطًا هامشيًا يجري إنفاق بعض الأموال عليه من أجل الوجاهة الاجتماعية الإقليمية والدولية!

الإنفاق العام على البحث العلمي ضرورة وجودية وتنافسية

بلغ الإنفاق العربي على البحث والتطوير العلميين نحو 0,7% من الناتج المحلي الإجمالي للدول العربية عام 2021، أي نحو 20973 مليون دولار في ذلك العام. ويتم إنفاق الغالبية الساحقة منه على الجهاز الإداري والمرتبات وليس على تمويل الأبحاث العلمية. ووفقًا لبيانات البنك الدولي بلغ المتوسط العالمي للإنفاق على البحث والتطوير العلميين نحو 2,7% من الناتج العالمي عام 2021، وبلغ نحو 2,3% في الاتحاد الأوروبي، ونحو 2,4% في الصين، ونحو 3,5% في الولايات المتحدة، ونحو 4,9% في كوريا الجنوبية، ونحو 1,4% في تركيا، ونحو 1,6% في مجموع دول الدخل المتوسط والمنخفض.

وبلغ المعدل نحو 5,6% من الناتج المحلي الإجمالي في الكيان الصهيوني الغاصب، وهي تعادل 27161 مليون دولار، أي ما يزيد على إجمالي الإنفاق العربي بنحو 6188 مليون دولار!!

المجتمعات العربية تحتاج إلى ثورة تعليمية وعلمية

وتجدر الإشارة إلى أنّ الجانب الأعظم من زيادة الإنتاجية في كافة القطاعات يعود إلى التحديثات التقنية الناتجة عن البحث والتطوير العلميين. وكان طبيعيًا والحال هكذا أن يكون مجموع متحصلات الدول العربية عن حقوق الملكية الفكرية 237,1 مليون دولار تعادل أقل من 0,1% من المجموع العالمي، ويعود 65,9% منها لمصر وحدها عن أعمال ثقافية وفنية سينمائية وتلفزيونية بالأساس، وليس عن براءات اختراع علمية! وتبلغ متحصلات الكيان الصهيوني عن حقوق الملكية الفكرية نحو 2,8 مليار دولار عام 2022.

أما صادرات السلع الصناعية عالية التقنية في مجموع الوطن العربي، فإنها لم تتجاوز 2% من صادرات السلع المصنوعة، مقارنةً بنحو 19% في المتوسط العالمي.

وإزاء هذا الوضع البائس، فإنّ الاقتصاد والمجتمعات العربية تحتاج إلى ثورة تعليمية وعلمية، ومضاعفة الإنفاق العام على البحث والتطوير العلميين وصولًا للمتوسط العالمي كحد أدنى، مع تركيز الإنفاق على الأبحاث العلمية نفسها، مع ربط مراكز الأبحاث بمختلف قطاعات إنتاج السلع والخدمات لتحويل الإنجازات العلمية إلى تقنيات إنتاجية وقدرات تنافسية.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن