أحد أهمّ المسائل التي طفت على سطح النقاش في الجزائر بعد الحراك الشعبي 22 شباط/فيفري 2019 المسألة الثقافية، ذلك أنَّ المسألة تكتنز العديد من الألغام الهوياتية التي يخشى الأكاديميون الحديث عنها، ظلّ نقاشًا سطحيًا إلى غاية النصف الثاني من سنة 2021 حين صدر للبروفيسور والمؤرخ الجزائري الأستاذ ناصرالدين سعيدوني كتاب بعنوان "المسألة الثقافية في الجزائر: النخب - الهوية - اللغة. دراسة تاريخية نقدية" عن المركز العربي لدراسة السياسات الأمر الذي حملنا على التعريف بهذا الكتاب وتتبع مضامينه في محاولة لفتح أفق النقاش بشكل أكبر وأعمق بخصوص موضوع الكتاب.
البنية الهيكلية للكتاب
يقع كتاب "المسألة الثقافية في الجزائر" في (664) صفحة مِن الحجم المتوسط، يحوي بين دفتيه على مقدمة وتمهيد بالإضافة إلى ثلاثة أقسام أساسية، قُسِّمت ضمن أحياز زمنية وإن لم يشر المؤلف إلى ذلك كما سيأتي. اهتم سعيدوني في مقدمة الكتاب بإبراز محورية المسألة الثقافية في الشأن العام في الجزائر من حيث كونها عاملًا رئيسيًا متحكمًا في صيرورة المجتمع ومدى انسجام مكوناته وتلاحمها. لذا رأى سعيدوني بأنَّه لا بد من مناقشة إشكالية رئيسية خطيرة تخصّ المسألة الثقافية وتتمثل أساسًا في إمكانية أن تؤدي العقدة الناجمة عن المسألة الثقافية والضبابية المحيطة بها إلى تقويض أركان الدولة الجزائرية مستقبلًا.
يشير سعيدوني في مقدمة الكتاب إلى أنَّ المواقف التقليدية في التعاطي مع المسألة الثقافية لا تخرج عن ثلاثة أنماط مقررة هي: المواقف الإدارية (الرتيبة التبسيطية)، ثانيًا: المقاربات السلبية (النخبوية)، ثالثًا: المقاربة المتشبثة بالأطروحات الإيديولوجية. ويختم الباحث مقدمته بالإشارة إلى مسألة أبستمولوجيا محورية تتعلَّق بخطورة التفسيرات الكولونيالية للمعطى الاجتماعي أو للظاهرة الثقافية. ورأى أنَّ الموضوعية تتطلَّب مِن الباحثين الذي يناقشون هذه المسألة الابتعاد عن التوجهات والأُطر المعرفية التي حدَّدتها المدرسة الكولونيالية للباحثين والأكاديميين الجزائريين.
سعى سعيدوني في التمهيد إلى وضع أرضية منهجية للعمل الذي يُقدِّمه؛ لذا احتوى على مُقدِّمات ثلاث: الأولى منهجية، الثانية تاريخية، والثالثة مفاهيمية. فحرص أولًا على وضع "المسألة الثقافية" ضمن إطارها الزماني والمكاني، ثمَّ حرص ثانيًا على أن يقدم بخلفية تاريخية للمسألة، في حين قام ثالثًا بتقديم مفاتيح مفاهيمية ومصطلحية تخصّ الموضوع.
أقسام الكتاب ومضامينه
قسَّم سعيدوني كتابه إلى ثلاثة أقسام أساسية، اعتمد التقسيم على البعد الزمني بشكل أساسي وإن لم يُصرّح المؤلف بذلك. حمل القسم الأوَّل عنوان: "من صدمة الاستعمار إلى ثورة التحرير: محاولات الإحياء وبذور الصراع الثقافي"، وهذا القسم يمتد زمنيًا على مدار 132 سنة من دخول القوات الفرنسية للجزائر سنة 1830 إلى غاية استرجاع السيادة الوطنية سنة 1962. يحتوي هذا القسم على ثلاثة فصول. آثر سعيدوني في هذا القسم أن يبسط الحديث عن السياسات الاستعمارية الفرنسية في الجزائر الهادفة لخلق هوية جديدة والكيفية التي تعاملت بها النخبة الجزائرية في صورتها التقليدية مع هذ الأمر. يشير في القسم نفسه إلى القلق الهوياتي الذي دخلته فئة من النخبة الثقافية في الجزائر بسبب طبيعة تكوينها الفرنسي وانبهارها بالحضارة الغربية جاعلًا إياها أحد الأسباب الرئيسية في الاضطراب الهوياتي والقلق المعرفي للمسألة الثقافية في الجزائر.
بعد ذلك ينتقل للحديث عن الحركة الوطنية باعتبارها اكتنزت شكلًا من أشكال الصراع الثقافي في جزائر ما قبل الثورة التحريرية. ويختتم سعيدوني هذا القسم بالفصل الثالث والذي خصّصه للحديث عن الثورة الجزائرية سنة 1954 والثورة المضادة لها، حيث رأى سعيدوني أنَّ الثورة بمحاملها الثقافية الواضحة حدث لها انتكاسة وتعرّضت إلى ثورة مضادة حوّلتها من حركة تحرير وطنية إلى حركة بناء دولة وطنية بأسلوب بيروقراطي. ويرى أيضا أنَّ منظومات الحكم في الجزائر المستقلة استخدمت مكونات الهوية الجزائرية حقلًا للمناورة السياسية وتحقيق المكاسب، ما زاد في تعقيد المسألة الثقافية.
أما القسم الثاني من الكتاب، فعالج فيه سعيدوني المشهد الثقافي الجزائري ما بين (1962-2019) أي من استرجاع السيادة إلى الحراك الشعبي. أتى في خمسة فصول، ناقش فيه موقف السلطة الحاكمة في الجزائر من الشأن الثقافي. أشار ضمنها إلى مدى تأثّر منظومة الحكم بالصراع الثقافي الذي اكتنزته الحركة الوطنية الجزائرية قبل الاستقلال. وركَّز فيه على إبراز انشطار النخب الجزائرية وانعكاس ذلك على النقاش الثقافي. كما تحدَّث عن عروبة الجزائر والمشاريع المضادة لها، وخصَّص حيزًا لبحث إشكالية بحث الحركة البربرية عن الخصوصية والسعي خلف الهوية المتخيّلة. وأشار المؤلف في هذا القسم إلى الخطر الذي يهدّد الوحدة الوطنية بسبب تحميل التاريخ معطى إيديولوجيًا بعيدًا عن الحقيقة.
خصَّص سعيدوني القسم الثالث مِن الكتاب لمسألة "التعريب وصدام مشروعين ثقافيين"، وقد عدَّ التعريب مشروع تحرُّرٍ ثقافي؛ لأنَّه جهد وطني هادف لمحو تركة الاستعمار الفرنسي. ناقش في هذا القسم محطات التعريب في الجزائر و"المنظومة التعليمية" و"مسألة إصلاح التعليم"، وخصَّص مساحة هامة للحديث عن المنظومة الحاكمة وعلاقتها باللغة الفرنسية كلغة ثقافة وهوية في زمن الرئيس عبد العزيز بوتفليقة وكيف مكّن الأخير لها وأصبح عرَّابًا للفرنسية. ولم يتردَّد سعيدوني في مهاجمة هذا الاتجاه وتوضيح تبعيته الفكرية والفلسفية للمستعمر.
وقد جاءت الخاتمة لتؤكد على الرؤية التي يدافع عنها سعيدوني في كتابه هذا، وهي أنّ المسألة الثقافية في الجزائر والنقاش حول أضلاعها ممثلة في الهوية واللغة والنخبة إنما هي تمظهر للصراع الثقافي بين هوية الجزائري بتنوعاتها المختلفة وهويات استعمارية بتشكلات مختلفة وجديدة تحاول فرض واقع جديد في الجزائر.
(خاص "عروبة 22")