بصمات

مقاوماتُ التّحديث

مـن المعلوم لدى دارسي المجال السّياسـيّ العربـيّ أنّ سيـرورة بنـاء دولـةٍ حديثـة في أيٍّ من البـلاد العربيّـة ليست منتظـمـةَ المسار والصّـعـود، على الرّغـم من الآثـار الملموسـة لعمليـات التّـحديث الجاريـة في قسـمٍ منها؛ وذلك نتيـجة ما تُصادفـه سيـرورةُ ذلك البنـاء من مقـاومـاتٍ شديدة من بِـنًـى ومؤسّسـاتٍ اجتماعيّـة عـدّة، ناهيـك بوجـود أجسـامٍ سياسيّـة متـنـفّـذة لا تجـد لها مصلـحةً في أن تـأخـذ عمليّـةُ البناء السّياسـيّ تلك مـداها إلى حيـث تُسْـفـر عن قيـام مجـالٍ سياسـيّ حديـث.

مقاوماتُ التّحديث

يتـعلّـق الأمر في هـذا بـ"عـوائـق" مـوضوعيّـة تنتـصب في وجـه تحـقُّـق مشروع الدّولـة الحديثة وتـفرض عليه السّـير بـإيـقاعٍ بطيء، على النّـحـو الذي بـتْـنا نـراهُ اليـوم، بـل منـذ عقـودٍ خَـلَـتْ. وسيكون أيُّ انتـظامٍ لمسار البنـاء السّياسـيّ متـعـذِّرًا ومتـعسِّـرًا إن لم تقـع مغالـبةُ تلك العـوائـق، والاجتـهاد في تبـيُّـن أقـوم المسالك إلى كـفّ آثارها السّـلبيّـة على الاجتمـاع السّياسـيّ العربـيّ.

العـوائق التي نشيـر إليها ينـتمي معظمُـها إلى مـواريث التّاريخ العربيّ: التّاريخ الاجتمـاعيّ والتّاريـخ السّياسـيّ، قـديمـه والحـديث. والمستـفادُ من هذه الإشارة أنّ تلك العوائـق متجـذّرة ومكينـة وتـقـتضي، لتعطيل مفاعيـلها، من الجَـهـد الجمـاعـيّ أكـثـرَه، ومن الزّمـن كثـيـرَهُ؛ إذ هي ليست وليـدة اليـوم أو وليـدةَ عـهـدٍ قريب بحيث يَسْـهُـل بَـسْـطُ السّيـطرة عليها على نحـوٍ تَـقِـلّ تكاليـفُـه. يمكـننا تصنيـفُ هذه في نوعيْـن من العـوائق: عـوائق اجتماعيّـة وأنـثـروپــو- ثـقـافـيّـة، وعـوائـق سياسيّـة.

المقاومات الأهلية غالبًا ما تـأخذ شكل إعلاء الولاءات الفرعيّة على الولاء الوطنيّ الجـامع للدّولة والكيان

والعـوائـقُ هـذه - مـن النّـوعيـن معًا - تـقـليديّـة وموروثـة، ولكنّـها متجـدّدة في الوقـت عيـنـه، بـل تجـد في النّـظام الاجتماعـيّ والسّياسـيّ القائـم ما يـوفّـر لها إمكانيّـة التّـجـدُّد وإعـادة إنتـاج نفسِـها وتأثيـرها. تـتعـلّق الأولـى منهـما بما يمـثّـله النّظام الاجتماعيّ العصـبويّ من كـوابـحَ في وجـه شـروط حـداثـة المجال السّياسـيّ، أمّـا الثّـانيـة منها فتـتعلّـق بكابِـح التّـقليـد السّياسـيّ وخـوفِه الدّائـم على نفسـه من أيّ تحـديثٍ يمكن أن يـأتي على قـوّتـه ونـفوذه.

لا مِـرْيـة في وفـرة المعضـلات التي يطرحـها على التّـفكيـر - وعـلى العـمـل - دورانُ الاجـتماع العـربيّ على عـلاقات انقـسامٍ فيه يتـوزّع فيهـا النّـاسُ على بِـنًـى وجماعـاتٍ مغلـقـةٍ على نفسـها، ومتّـحدةٍ في داخلـها بروابـطَ تضامنـيّـةٍ أهـليّـة تـقـليديّـة قائمـةٍ على النّسب، أو على  الدّيـن، أو على المـذهـب،  أو على الجـوار...، أي على جملة العـلاقات التي هي مـن طبيعـة موروثـة - وقهـريّـة، بلغة إميـل دوركايـم، مفـروضـة - و، بالتّـالي، تشتـغل داخـل مـدار فكـرة الهـويّـة النّـوويّـة الصّـغرى أو سعيـًا إلى تـثـبيتـها والتّـمايُـز بـها. إنّـها تختلف عن نـوعٍ آخَـر من العـلاقـات يقـوم عليه العمـرانُ الاجتـماعـيّ الحديث؛ أعنـي العلاقـات التي ينـتحلها النّاس لأنفسـهم أو تفرضها عليهم شـروط الكسب والعمل والمصالـح المشتركـة التي تـتولّـد منها، فتـؤدّيهـم إلى الانتظـام المـوضوعيّ في طبقـات وفئـات اجتماعيّـة عابـرة، أفـقـيًّا، للقبائـل والعشائـر والطّـوائف والمذاهـب والمناطـق، ثـمّ إلى الانتظـام الذّاتـيّ في مؤسّـسات مدنيّـة تـكـفـل المصالح المشتركـة؛ مثـل الجمعـيّات، والنّـقابـات، والأحـزاب، والمنظّـمات المدنيّـة... إلخ.

التّقليد السّياسيّ المناهض لكلّ تحديث موروث عن الدّولة السّلطانيّة وتَجدَّد في سياق هندسة الإدارات الاستعماريّة

لا يسـاعـد المجتمع الأهلـيّ العصبـويّ على نشـوء مجالٍ سياسيّ حديث لأنّـه (مجتـمع) ينـعدم فيه الشّرطُ التّـحتـيّ لقيام مثـل ذلك المجـال: الانـدمـاج الاجتـماعـيّ. وهـذا، بالذّات، سببُ معـاناة مشـروع الدّولة الوطنـيّـة الحديثـة في الوطـن العربيّ تلك الموجـةَ الهائلـة من المقـاومـات الأهلـيّـة لها: المقاومـات التي غالبـًا ما تـأخـذ شكـل إعـلاء الولاءات الفـرعيّـة (للعصـبيّـات) على الولاء الوطـنيّ الجـامع للدّولـة والكيـان!

نظيـرَ هـذا العائـق الاجتماعيّ نجـده، هـذه المـرّة، يلبـس لبوسـًا سياسيًّا: التّـقـلـيد السّياسـيّ المناهـض لكلّ تحـديثٍ للحـقل السّـياسـيّ. هـذا التّـقليـد موروث عـن تجـربـة الدّولـة السّلطانيّـة في القديـم، لكنّـه تَـجـدَّد في سيـاق هنـدسـةٍ سياسيّـة أجرتْـها الإداراتُ الاستعماريّـة، قبل جـلائـها، فأَسفرت عن ميلادِ نظامٍ سياسيّ مُـهـجَّن: مزيج من التّـقـليد السّلطانـيّ والتّـحديث السّياسيّ المدنـيّ! ولقد استمـرّ وجـود قـوى هـذا التّـقـليـد في المجـال السّياسـيّ العربيّ المعاصـر، فشكّـلت جيشًا اجتماعيًّا مقاوِمًا - وبشراسـةٍ أحيانًا - لكـلّ منحـى نحو الوصول بالتّحديث السّياسـيّ إلى عتـباتـه العليا، بحسبان أيّ نجـاحٍ في ذلك يضـرب، في الصّميـم، هـذه القـوى التي تـقـترن مصالحُـها باستمرارِ سلطان التّـقـلـيد في الاجتـماع السّياسـيّ العربـيّ.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن