بصمات

"تحديث الاستبداد" في البلاد العربية

تُعتبر مسألة استقرار النظام السياسي مركزيّة بالنّسبة لعلماء السياسة المختصّين بنظريات العمليات السيّاسية. فعقب احتجاجات 2011، كُتب كثيرٌ عن عدم قدرة النّظريات السيّاسية القائمة على تفسير ما حدث في المنطقة. ومن ثمّة بات السّؤال يتمحور حول إمكانية وضع نظرية للعمليات السياسية العربية.

تاريخيًا، ظهرت ثلاثة أطر تفسيرية مختلفة تدّعي تقديم تفسير محلّي لاتّجاه عمليات التحوّل في العالم العربي:

أولًا، مدرسة "الاستثنائية العربيّة" في الثمانينات والتسعينات التّي نشأت في سياق الجدل بين علماء الاجتماع العام وخبراء الدّراسات الإقليمية التّي تُعرف بـ"جدل الدراسات الإقليمية" ويمثّلها كلّ من (بانك وبوسه 2021).

الانتفاضة ضدّ نظام استبدادي تشكّل بدايةً للتحوّل الديمقراطي

تزعم هذه النّظرية أنّ المنطقة قد أفلتت فرصة بلوغ الديمقراطّية في الحدّ الأدنى من مقوّماتها. ومن خلالها يجادل خبراء السيّاسة الإقليمية بأنّ السيّاسة والإستبداد في الشّرق الأوسط متجذّران في بنيته الثقافية والتاريخية على نحو خاص. وعليه، تبقى النّظريات العامة لعلم السّياسة والعلاقات الدّولية غير قادرة على تفسير عمق المتغيّرات السيّاسية الدّاخلية التي تضبط ميولاته العامة. في هذا الصّدد تذهب "إيفا بيلين" إلى أبعد من ذلك عندما تجادل بأنّ تفاعل الأنظمة العربيّة مع الاتجاهات السياسية العالمية في التسعينات كان يتّسم بمقاومة مزدوجة للإصلاح السيّاسي والاقتصادي.

ثانيًا، نظريّة التحوّل الديمقراطي التّي تمّ تطويرها من خلال الانتقالات النّاجحة في أمريكا اللاتينية وأوروبا الوسطى في التسعينات. إذ ترى أنّ الانتفاضة ضدّ نظام استبدادي تشكّل بدايةً للتحوّل الديمقراطي. وهنا اعتُبرت تونس البلد الوحيد عربيًا الذي اتخذ مسارًا سليمًا نحو الديمقراطية وفقًا للخصائص الاجتماعية التي تميّزه، ممثّلة في المجتمع المتجانس القائم على التعدّد اللّغوي والأدوار التي يقوم بها الإتحاد الوطني للنقابات في تعبئة النّاس، والفاعلون السياسيون الذّين يؤمنون بالدّولة الوطنيّة. غير أنّ هذا التحوّل الديمقراطي أبان عن اضطرابه باعتباره انطلق هشًّا نظرًا لثبات النّخب الفاسدة والنخب التقليدية المقاومة للتغيير في الهياكل الأساسية للدّولة. فأصبحت الخلاصة أنّه لا يمكن اعتبار التحوّل الديمقراطي عمليّة ثابتة وأكيدة.

ثالثًا، وضع هيديمان وليندرز (2011) في تحليلهما لِما بعد التحوّل الديمقراطي نظرية أطلقا عليها عمليّة التكيّف والتعلّم. وتقتضي تفسير كيفية تكيّف المتظاهرين والنّخب الحاكمة مع السيّاق السيّاسي المتغيّر. هنا يُعرّف "ستاتشر" التكيّف الخاص بالنّخب السياسيّة على أنّه تغيير سياسي يضبط الدولة وفقًا لتغيّرات ما يحيط بها دون التخلّي عن السلطة أو التضحية بتماسك نخبها. وهذا يؤدّي إلى استقرار الإستبداد كما هو ملاحظ في الشّرق الأوسط. نتيجةً لذلك، تظلّ الأنظمة السياسية في البلاد العربية مرنة مرونة استبدادية تدبّر ضغوطها السياسية الدّاخلية والخارجية بالتكيّف مع مصالحها ممّا يضمن لها استمرارها في الحكم.

"طوفان الأقصى" سيجعل من التّحديث الاستبدادي في البلاد العربية عملية غير ذي جدوى

هنا يمكن أن نتحدّث عن تحديث الاستبداد الذي ذهبت إليه بعض الدّول العربية لامتصاص الصدمات وتحويل عملية التعلّم إلى أشكال جديدة للسيطرة على المعارضة والمجتمع المدني والنخب الثقافية والإعلامية ووسائل التواصل الاجتماعي. وحتى تجعل لهذه السيطرة معنى الضّبط باعتباره مهمة خاصة بالدّولة، نراها تجنح إلى إصلاحات اقتصادية انتقائية لتحويل مسار السخط الاجتماعي الناتج عن اليأس إلى أمل للإصلاح الاجتماعي الشامل بالتّبشير بسياسات عمومية شعبية لا تعدو أن تكون في الغالب الأعم حبرًا على ورق. وبالرّغم من أنّ التّحديث الاستبدادي قد ساهم في استقرار الأنظمة الاستبدادية إلاّ أنّه لم ينجح في تطويق نهائي للمجتمعات العربية. وهذا ما أبانت عنه أحداث 2019، التّي اعتبرها البعض "ربيعًا عربيًا" ثانيًا أشّر على انهيار العقد الاجتماعي التقليدي والعودة الحثيثة للطائفية والانتماء القبلي، بدليل ما وقع في أربع دول عربيّة: الجزائر والسّودان ولبنان والعراق.

لكن ما ينبغي التأكيد عليه، أنّ "طوفان الأقصى" وما نتج عنه من همجية إسرائيلية غير مسبوقة عادت بالسّلب ضد إسرائيل والصّهيونية العالمية، سيجعل من عملية التّحديث الاستبدادي في البلاد العربية عملية غير ذي جدوى. فاحتجاجات طلاب جامعات العالم سيكون لها ما بعدها في البلاد العربية وسيمتد صداها من داخل مجتمعاتها إيذانًا بميلاد ربيع عربي جارف ستسقط معه، هذه المرّة، أنظمة عربية كثيرة بالرّغم من قوّتها ومناعتها السيّاسية.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن