لم يكن من باب الصدفة أن يُسرّب مكتب نتنياهو خطة "مِن الأزمة إلى الرخاء"، والتي ترمي إلى وضع القطاع تحت الحكم الذاتي وإعادة إعماره ودمجه في الاقتصاد الإقليمي، قبل 3 أيام فقط من عملية جيش الاحتلال في شرق رفح والتي سيطرت فيها على المعبر الحدودي مع مصر.
تهدف الخطة التي نقلتها صحيفة "جيروزاليم بوست" نقلًا عن مكتب نتنياهو مطلع الشهر الجاري، إلى التخلّص من الخطر الذي تشكله غزّة باعتبارها "معقلًا لإيران.. يُعطل البنية الإقليمية المعتدلة.. وسلاسل التوريد الناشئة من الهند إلى أوروبا".
خطة نتنياهو تتماس في عدد من بنودها مع مشروعات سابقة ثبت فشلها من "أوسلو" إلى "صفقة القرن"
في المرحلة الأولى من تلك الخطة، تنتهي إسرائيل خلال 12 شهرًا من إنشاء مناطق خالية من "حماس"، ويشرف على توزيع المساعدات الإنسانية خلالها تحالف عربي، بمعاونة فلسطينيين تقتصر مهمتهم على إدارة تلك المناطق.
وتستمر المرحلة الثانية، من 5 إلى 10 سنوات، تحتفظ إسرائيل خلالها بالمسؤولية الشاملة عن الأمن في غزّة، فيما تتولى الدول العربية مهمة "إعادة التأهيل والإعمار"، ويسند للإدارة الفلسطينية "تنفيذ برنامج لمكافحة التطرف".
وفي المرحلة الثالثة التي تحتفظ فيها إسرائيل بالعمل ضد "التهديدات الأمنية"، تنتقل السلطة ببطء لحكومة محلية من غزّة أو حكومة فلسطينية موحّدة، على أن يكون ذلك مشروطًا بنجاح "اجتثاث التطرّف وتجريد القطاع من السلاح"، وفي النهاية تنضم السلطة الفلسطينية لاتفاقيات إبراهام.
وترمي الخطة إلى فتح الباب لشركات واسعة بين القطاع "المزدهر" ونيوم السعودية وسيناء المصرية، وذلك بعد تحوّل غزّة إلى ميناء مهم على المتوسط، ومركز لنقل نفط الخليج للعالم، ومنطقة تجارة حرّة ضخمة تشمل سديروت والعريش إلى جانب القطاع.
اللافت في الخطة، التي تتماس في عدد من بنودها مع مشروعات سابقة ثبت فشلها بدءًا من "أوسلو" وصولًا إلى "صفقة القرن"، أنها تسعى إلى إيهام أهل غزّة الذين فجعهم فقد أبنائهم وذويهم أنّ إسرائيل وحلفاءها يهدفون إلى تحويل قطاعهم إلى مدينة أحلام تضم مراكز أعمال وممرًا تجاريًا.. إلخ.
تجاهل واضعو الخطة التي جرت مناقشتها مع مسؤولين ورجال أعمال عرب - حسب النص المنشور - أنّ دماء الغزيين لا تزال تسيل وجراحهم لا تزال مفتوحة، وأنّ رغبتهم في الانتقام والثأر تطغى على أحلام تلك الجنّة الموعودة.
في اليوم التالي لنشر تفاصيل الخطة، نشرت صحيفة "نيويورك تايمز" الأمريكية أنّ المشروع الذي وضع في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، وشارك في صياغته رجال أعمال إسرائيليون، يأتي في إطار برنامج متكامل للتطبيع بين إسرائيل والسعودية، مشيرةً إلى أنه تم إطلاع مسؤولين من دول عربية وغربية على ملامحه.
وبعد نشر الخطة بـ4 أيام، نفذت إسرائيل تهديداتها ودخلت قواتها إلى شرق رفح وسيطرت على المعبر ورفعت أعلامها عليه، وسط رفض خجول من معظم الدول العربية، وتحفظ من الولايات المتحدة التي أعلن رئيسها تعليق إرسال شحنة أسلحة هجومية إلى حليفته، وهو ما لم يردع بالطبع نتنياهو وحكومته الذين أعلنوا عن استكمال الحملة العسكرية على كامل القطاع لتفكيك ما تبقى من كتائب حماس "حتى لو فعلنا ذلك بمفردنا.. سنقاتل بأسناننا وأظافرنا".
كان من اللافت أيضًا أنه في التوقيت نفسه تقريبًا، توالت الإشارات على اقتراب التوصل لاتفاق تطبيع بين السعودية وإسرائيل، ضمن صفقة أكبر تتضمن حزمة اتفاقيات بين واشنطن والرياض تشمل التزامات أمنية ودفاعية تقدمها أمريكا للمملكة وتعاونًا نوويًا بين البلدين، بحسب ما أعلن أنتوني بلينكن نهاية الشهر الماضي، مشيرًا إلى أنّ الاتفاق معلّق على شيئين "الهدوء في غزّة، ومسار موثوق إلى دولة فلسطينية".
بلينكن أحد أركان مطبخ يعمل على إعداد وجبة مسمومة للشرق الأوسط
لم يذكر بلينكن أنّ الرياض اشترطت وقف الحرب بشكل كامل وإقامة دولة فلسطينية، كما أعلنت من قبل، بل استخدم تعبيرَيّ "هدوء، ومسار موثوق".
يُعتبر بلينكن اليهودي الصهيوني أحد أركان مطبخ الولايات المتحدة لصنع استراتيجيات السياسة الخارجية ومحددات الأمن القومي، يعمل هذا المطبخ على إعداد وجبة مسمومة للشرق الأوسط منذ أن حاول بعض حكامه الخروج من الفلك الأمريكي، حتى جاءت "طوفان الأقصى" فأفسدت الطبخة وأربكت الحسابات.
يسعى بلينكن من خلال زياراته للمنطقة إلى إصلاح ما فسد، لكن المفارقة أنّ من يضرب مشروعه ليس المقاومة وحدها، بل حلفاؤه في الحكومة الإسرائيلية المتعطشون للدماء والمتعجلون في الوصول إلى الهدف لأسباب انتخابية.
أمام واشنطن تحديان، الأول؛ فرملة اندفاع نتنياهو ورفاقه، والثاني الضغط على المقاومة حتى تعلن استسلامها أو قبولها بالاندماج ضمن المشروع الأمريكي، قد تنجح في تجاوز التحدي الأول، لكن من الصعب أن تتجاوز الثاني، فالشعب الفلسطيني لن يقبل بالتنازل عن حقوقه التي دفع فيه شلالات من الدماء مقابل دمجه في مشروع يحوّل ما تبقى من بلاده إلى مركز تجاري وضعت قواعده أمريكا وسلّمت مفاتيحه لإسرائيل.