إنّ أدوات السيطرة لا بد لها من حوامل تاريخية، لهذا وضعت إسرائيل تاريخًا ضد تاريخ، ودينًا ضد دين، وقومًا ضد قوم، لأنها إيديولوجيا لا تقوم إلا بالنفي.. هذا الصراع الرمزي الذي قامت عليه هو يستبطن التاريخ منذ نعومة أظافره، أي الإستملاك، أخ ضد أخ، ما يذكّر بصراع الاخوة الأوائل، هابيل وقابيل.
من هنا فإنّ هذا الصراع على الهويتين إنعكس ثقافيًا على الأمكنة والأزمنة، وعلى شتى التعبيرات الأخرى، حتى دخلت في تسميات الأطعمة، فالعقلية الصهيونية هي عقلية الاستحواذ والسرقة، لدرجة أنها تعمل على سرقة الحياة والوقت للناس، تسرق أوقاتهم اليومية، التي تضيع على الحواجز والمعابر والسجون، تسرق منهم الوقت للعمل وللدراسة، تسرق منهم المستقبل الذي تحاول القبض عليه، والأقوى في مواسم الحصاد والقرابين أنها تسرق أرواحهم اليوم وأجساد أطفالهم الطرية، وكأنّ الشعب الفلسطيني بأرواحه هو شعب مُعد بشكل مسبق لإقامة فعل القرابين من خلاله.
صراع إسرائيل هو صراع مع كل الزمن والثقافة التي هي بالضد من سردياتها
الفلسطيني هو الزمن الذي يُراد كبحه وقتله، والزمان على ما ذهب ابن المقفع هو الناس، على ذلك فإنّ الفلسطيني يحمل في طياته الزمن وما فيه من تعبيرات الثقافة واللغة، اللغة التي تحيل إلى التاريخ، لأنّ اللغة هي تاريخ، ومن دونها لا تاريخ، فبذلك نفهم الأشياء التي تم إستبدال أسمائها من العربية إلى العبرية، على الأزقة والأحياء والقرى، لهذا فإنّ الشجرة التي يتم قلعها هي أيضًا تذكير بالزمن وما يحمله من لغة، وأيضًا الأبنية التراثية التي يتم تسويتها بالأرض هي أبنية لها هوية تعشعش فيها الثقافة المضادة.
صراع إسرائيل هو صراع مع كل الزمن والثقافة التي هي بالضد من سردياتها، لأنّ الناس، كما الأبنية وأشجار الزيتون، هم ذاكرة الزمن الذي تريد سرقته والقضاء عليه، لأنّ الذاكرة تنتقل مع الأشياء، لهذا فإنّ كل شيء بالنسبة إلى إسرائيل هو فضيحة للكذبة التي كلما توهمنا أنها تغطت وأصبحت في طي النسيان، بفعل أفعولية التقنية لإسرائيل، ما تفتأ وأن تتفجر، وما حدث في 7 أكتوبر هو إنفجار الكذبة.
"طوفان الأقصى" هو انفجار الكذبة المتطرّفة، اللغة تغطي التاريخ، وتعمل على إخفاء الكذب والأخطاء عبر مؤسسات القوة (الاعلام، الجامعات ومراكز البحث والعلوم، أجهزة الدولة والرقابة، وسائل الانتاج، مؤسسات التنشئة والرياضة)، وبالتالي فإنها تعمل على توزيع الخطاب باللغة، من هنا فإنّ عنف اللغة أشد من القنابل، لأنّ أصواتها تنخر التاريخ وتخلع كل صوت آخر، فهي تنبث كالموسيقى فتتعشعش بالأذهان، وعلى ذلك "إسرائيل" الكذبة تصبح بكل سلاسة أمرًا واقعيًا وبشكل تداولي، والضحية التي تنزاح من الأذهان عبر مؤسسات الخطاب الايديولوجية، وعبر القنابل المتوحشة، تصبح هي الجلاد العنيف، وهكذا شيئًا فشيًا نتماشى مع أدوات الخطاب بالتشتيت والتحوير فنتكلم لغة هذه الكذبة بشكل لاواعٍ، وبوصفها لغة تتحوّل إلى طقس عبور إلى التمدين والعصرنة، بسبب أدوات التحشيد العلمية التي تغطي الكذب، وهذا يتم على حساب فقدان الثقة بما أملك من فهم والتشكيك بما أحمل من وعي، وبشكل موارب لكي لا أحدد هذه الكذبة- المشكلة، والتي تفرز مشكلات، أبدأ بإلقاء اللوم هنا وهناك لكي لا أضع اللوم على أساس المشكلة، وهذا ما ينعش الكذبة.
الكذبة إرتدت إلى قلب المنشأ مع حراك الطلاب في جامعات الغرب
من هنا فإنّ غزة الآن تتحوّل إلى مشكلة، والكذبة الكبرى حوّلتها إلى كذبة وبالتالي يجب التخلص منها، وهذا ما يروّج له في أدبيات كل العالم أمام أعيننا، ومن مسرح غزّة يقوم الآن كل طرف بإنشاء كذبة تتناسب مع مصالحه حتى يستثمر من هذا الحقل، في المحيط والاقليم والعالم، لينسدل الستار وننسى أن الحقيقة الوحيدة هي الاحتلال والابادة الجماعية، والمفارقة أن هذه الكذبة إرتدت إلى قلب المنشأ مع حراك الطلاب في جامعات الغرب، اللذين تفلّتوا من سحر هذه الكذبة، الأمر الذي يمكن أن يُشكّل دينامية، وهذا احتمال، لأنّ هذه المظاهرات هي فضح للكذبة من خلال أنه بإمكانها أن تفيد في إضفاء طابع درامي على المطالب وإيصالها إلى الرأي العام.
