بصمات

الجنوب الشامل والعالم بدون مركز

كتب السياسي والإعلامي البرتغالي برينو مسايس في مجلة "نيو ستاتسمان" البريطانية (٢٦ أبريل ٢٠٢٤) ، إنما بيّنته انتفاضة الطلاب في الجامعات الغربية وتصويت جل بلدان العالم على عضوية فلسطين في الأمم المتحدة هو أنّ الولايات المتحدة الأمريكية لم تعد قادرة على التحكّم في النظام الدولي الذي كان لها دور أساسي في وضعه والدفاع عنه.

الجنوب الشامل والعالم بدون مركز

فإذا كانت القوة الأمريكية لا تزال استثنائية، إلا أنها غدت عاجزة عن تجسيد فكرة "النظام الكوني" الشامل، وفي كل يوم تتراجع مكانة القوة الدولية الأولى في الساحة العالمية.

ما حدث مع الأوضاع المأساوية في غزّة هو أنّ الغرب أدرك أنه لم يعد يتحكّم في البوصلة الأخلاقية للبشرية، ولم يعد باستطاعته فرض رؤيته للأشياء على بقية المعمورة.

برز التحول بقوة منذ حرب أوكرانيا التي انحازت فيها الصين لروسيا، والتزمت فيها الهند خط الحياد. ما حدث اليوم مع سلسلة الحروب الواسعة التي تشهدها مناطق كثيرة من العالم هو أنّ المواجهة العنيفة لم تعد تؤدي إلى إعادة بناء التوازنات الجيوسياسية. ذلك أنّ الحروب الراهنة هي بالأساس اجتماعية، وليست الجيوش الرسمية قادرة على حسمها، كما أنها لا تقوم على منطق التحالفات التقليدية نتيجة لما يطبعها من سمة العولمة المتنامية.

المنظومة الدولية تشهد حاليًا مسارين شديدي الخطورة

وهكذا يخلص الكاتب إلى أنّ عولمة النزاعات تعني أنّ المبدأ الكوني الأوحد القائم في منطق النزاعات هو النزاع نفسه، بحيث لا يفضي أي من الصراعات القائمة راهنًا

بذاته إلى أي بناء مستقر. ومن هنا يستنتج أنّ العالم يعيش في الوقت الحاضر خطرًا أمنيًا غير مسبوق يهدد مصير البشرية بكاملها.

ما نريد أن نستخلص من أطروحة مسايس هو أنّ المنظومة الدولية تشهد حاليًا مسارين شديدي الخطورة، هما من جهة انفصام الحرب والمعنى (أي خروج النزاعات المسلّحة عن منطق الفعل السياسي المعقلن) ومن جهة أخرى عولمة الصراعات المحلية بما يعني تحول بؤر النزاعات المسلحة إلى ساحات مواجهة شاملة.

في مواجهة هذين التحديين المترابطين، يعاني العالم الغربي من أزمة تواصل حادة مع بقية العالم، باعتباره فقد الدور المركزي في ضبط حركية الكونية الإنسانية بعد قرون ثلاثة من التحكم الأحادي في منابع القوة والمعنى.

لم تعد القوة الخشنة قادرة على حسم الصراعات الدولية، بما حدا بالباحث الفرنسي برتراند بادي إلى الحديث عن " ضعف القوة" في الأنماط الجديدة من الصراع التي يربح فيها الضعيف وليس القوي.

كما أنّ المنظومة المعيارية التي وضعها الغرب الحديث في تصور وتسيير الدينكاميكيات السياسية والاستراتيجية لم تعد فاعلة، بل تعرّضت لأصناف شتى من التشكيك والتفكيك، بدءًا من المدرسة النقدية للاستعمار إلى أدبيات العصيان النظري والمنهجي التي اجتاحت الجامعات الأوروبية والأمريكية مؤخرًا.

القيم الحداثية والتنويرية التي قامت عليها المركزية الغربية تتعرّض للتفسخ والتراجع في مهادها الأصلية

قبل أشهر سابقة تحدث الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون أمام سفراء بلاده في الخارج عن ما سماه نهاية "الهيمنة الغربية على العالم"، معتبرًا أنّ الديبلوماسية المستقبلية لا بد أن تراعي الخصوصيات والهويات الثقافية للمجتمعات والأمم الأخرى، حتى ولو كان للغرب ثوابته القيمية التي لا يمكنه التراجع عنها.

المأزق الذي لم يتحدث عنه الرئيس الفرنسي هو أنّ القيم الحداثية والتنويرية التي قامت عليها المركزية الغربية في القرون الثلاث الماضية تتعرض للتفسخ والتراجع في مهادها الأصلية، في مرحلة يتزايد فيها نفوذ التيارات اليمينية المتطرفة التي تستند لأكثر مقولات الهوية القومية انغلاقًا وعنصرية، بما يضاعف من أزمة القطيعة المتنامية بين الغرب وبقية العالم.

بعبارة أخرى، إنّ تراجع الغرب ناتج قبل كل شيء عن تنكره لقيمه المرجعية التي تأسّست عليها النزعة الانسانية الكونية، التي غالبًا ما توظف أيديولوجيا بطريقة انتقائية غير موضوعية، بما ولّد ما ذكرناه من أزمة ثقة ما بين الغرب والأمم والمجتمعات الأخرى.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن